مقالات

الكذبة لا تعيش حتى تصبح عجوزا 

فطين حفصية
صحفي

ذهب أب التراجيديا الإغريقية “سوفوكليس”  الذي حمل على كتفه في أثينا خمسة قرون قبل الميلاد أسفار السياسة وشيطان الشعر وتعبيرات المسرح إلى ترتيب هذه المقولة التي تحولت الى مثل، ويقابلها في مكتبة الحكم العربية المثل القائل أن حبل الكذب قصير وإن تم تزيينه ببعض الحقائق.

 لا جنسية أو عرق أو دين للكذب وخصوصا عند السياسيين، فهم وإن كانوا بائعي وهم أحيانا وتجار أمل في مطلق الأحيان، فإنهم يتخذونه وسيلة لتحقيق انتصار انتخابي أو رفع دعامة حكم أو تموضع  للمناورة في الزمن السياسي أو خطة في حرب،  لكن لهذا الكذب سقف محدد في الزمن والفعل  يجب أن لا يضحك على ذكاء الناس والا تحول إلى استغباء ومنه إلى استعداء.

 وإذ ينخرط السياسيون في تنفيذ قواعد “كبير البراغماتيين” ماكيافيلي بأن السياسي لا ينتصر فقط بالقوة ولكن أيضا بالحيلة والخديعة وأساسها الكذب فإن الإفراط في هذا الكذب ينسف خطوط التماس المعقولة في إدارة الخلافات ليصبح خطره قائما على كل المجموعة كاذبين ومكذوب عليهم.

وحين يجنح صاحب الكذبة الكبيرة أو أصحابها نحو خندق المس من السلم الأهلي أو الأمن القومي أو تهديد الكيان السياسي والاجتماعي للدولة  تصبح مسؤولية إجهاض مخططاتها في المهد  وكشف وجوه ممتهنيها ضرورة قبل أن تفرخ أزمات وأعاصير نراها في أمثلة قريبة وبعيدة عنا.

الرابط مع ما سبق هو مضمون كلمة رئيس الجمهورية قيس سعيد  أمام أعضاء الحكومة الجديدة سويعات قليلة بعد نيلها صك العبور البرلماني في جلسة هادئة تنظيما حادة مضمونا،  وإذا اختزلنا جزء قليلا  من هذه الكلمة في رجاء النجاح والتوفيق لهذه الحكومة وركوب موجة الأوضاع الصعبة للبلاد بثقة فإن بقية معانيها ترميزات واضحة  لعدد ممن أطلق عليهم صفة “الكاذبين والمفترين”.

من جملة 17 دقيقة استغرقتها الكلمة استحوذ قاموس الكذب وتوابعه على مضامينها، وبعد أن أكد أنه سيأتي اليوم الذي تعرف فيه الحقائق لم تغب مفردات الادعاء والافتراء والوعود الكاذبة والخيانات والاندساسات والغدر والتحيل والخيانة والتذيل للاستعمار والارتماء في أحضان الصهيونية عن أسطرها، وكلها عدا و توصيفا تهم خطيرة على غموض بعض مقاصدها التي اتجهت منصات صواريخها رأسا إلى سياسيين وأحزاب.

لما نجمع كل المصطلحات التي أفردها رئيس الجمهورية في سلم تقييم المعاملات السياسية سنجدها تحيل أساسا إلى مربع الكذب الخطير على الشعب وليس الكذب السياسي العادي الذي يكون ملح السلطة بالمفهوم الأفلاطوني المثالي.

لم يغفل سعيد مجريات جلسة منح الثقة لحكومة هشام المشيسي وما وجهه له عدد من النواب من “قصف برلماني مركز”  حول تحريك خيوط اللعبة الحكومية والحزبية ” ومحاولات” تطويع “الدستور لأجل برنامج ” الشعب يريد” واحتواء منصب رئيس الحكومة في وزير أول فرد التحية النقدية البرلمانية خطيرة اللهجة بأخطر منها عبر قوة اللفظ والإيقاع وإيحاءات تقاسيم الوجه الغاضبة وسهام التهم عند فتح أقواس الكذب مقابل الصدق والصادعين بالحق أمام المدعين والمفترين لينتهي في جوهرها إلى تحكيم الله والأيام بينه وبين هؤلاء “المبنيين للمجهول”  الذين سيبقون كعروش نخل خاوية وفق توصيفه .

حين يتقبل السامع السياسي والمتابع للشأن العام والمواطن العادي والمتلقي الداخلي والخارجي هذا “السيل التوصيفي للكذب ومشتقاته” فسيضع عبر هذا الخطر المحدق جملة من الأسئلة المباشرة والآلية :  من هي الأطراف الكاذبة تحديدا لا تلميحا ومن هي شخوصها وفاعلوها ومكوناتها وأحزابها التي تعمل “تحت جنح الظلام” وكيف ولأي طرف أو جهة باعت ضمائرها ووطنها مثلما تابع للرئيس في إفاداته الخطيرة وماذا يريد هؤلاء بالضبط وبأية وسائل يتحركون وما هو الفضاء الذي يستهدفون وإلى متى ستستمر إدارة الخلافات منذ 2011 عبر أسلحة الكذب والكذب المضاد في المنابر الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي؟ 

 عادت مضامين الكلمة بالمفكرة الزمنية أيضا إلى أثقال لفظية خطيرة رماها سابقا رئيس الجمهورية في سوق السياسة والأحزاب والرأي العام ففي مدينة سيدي بوزيد نقل في السابع عشر من ديسمبر الماضي أن “مؤامرات تحاك ضد التونسيين في الظلام”،  وعشية عيد الفطر في نهاية شهر ماي الماضي بعث برسائل مشفرة حول “البعض الآخر ممن دأبهم الكذب والنفاق والرياء”.

أما في الثالث العاشر من جويلية فقد أعاد الحديث عن الغرف المظلمة و لم يغفل في ذروة مكافحة الفيروس العابر للقارات التعهد بأنه حال الانتهاء من جائحة كورونا سيتم الانطلاق في محاصرة كل الجوائح الاخرى الطبيعية والمفتعلة ومن أهمها طبعا الكذب السياسي الخطير ومن اعتبر أنهم سينالون ميداليات من صنف جديد وهي ميداليات الكذب والافتراء.

 ان المتابع لمسار هذه ” التهم” و”اليقينيات” الرئاسية كل حسب قراءته لا يفوته تكرارها في مسافة زمنية متتابعة منذ توليه لمهامه لكن شكلها اتخذ منحى هرميا في كلمة أداء اليمين وقاعدة مواجهة تقترب فصولها عندما دعا بشكل لا لبس فيه إلى إقامة جبهة موحدة ضدها وضد “رجال الظل الكاذبين”. 

 ولو أخذنا بمسلمات المنطق والأصل في الأشياء القائلة إن رئيس الجمهورية لا يمكن أن يرمي الكلام جزافا دون وسائل إثبات أو مؤشرات قاطعة فإن مكامن المخاوف تتضاعف إذ أن معطيات أمنية واستخبراتية توضع على طاولته كل يوم وتقارير دورية ودراسات تصله فضلا عن ما يرد من وراء الحدود في سلة التعاون الثنائي والاقليمي والدولي.

تبدو المسائل المقترنة بالكذب ومشتقاته في الحالة التونسية إذا على غاية من الخطورة في مداخلات الرئيس لأنها تمس بالجسم السياسي للمجتمع وكيان الدولة برمته ويتضاعف منسوب الخطر  عندما يسير أيضا  رئيس الحكومة المنصرف الياس الفخفاخ في ركاب الحقل الدلالي السياسي نفسه  ويتحدث في كلمة الوداع الحكومي عن أيادي أطراف من الخارج تحرك الوضع بالبلاد بواسطة انتهازيين تابعين لها  مع إطلاق صيحة فزع فحواها أن الصمت غير مقبول الآن لان الوطن بصدد الضياع أمام الجميع.

نحن الآن إذا أمام حالة اقتران بين أكاذيب سياسية خطيرة ومشتقات سلوكية مشينة لها (يتحدث عنها الجميع وليس رأسا السلطة التنفيذية فقط بل أحزاب ومنظمات وهيئات ونشطاء)  ووضع يسير  فوق رمال متحركة بعد “سنوات اقتصادية وتنموية واجتماعية بيضاء”، وحالة الاقتران هذه تستدعي  الإصداع بالمسميات دون المس من محاذير واجب التحفظ ورفع الغشاوة ما أمكن عن أعين وأسماع هذا الشعب الذي أنهكته أكاذيب عدد من السياسيين أكثر من إنهاك الأوضاع الصعبة وحتى لا تعيش هذه الأكاذيب ليننا طويلا لتكسر القاعدة الإغريقية وتصبح عجوزا.

Skip to content