مقالات

الكورونا وما بعدها، الاحراجات النظرية والاختيارات الإيديولوجية

أ.حميد بن عزيزة

لأن الإنسان هو القيمة المثلى، يعود على المجتمع ضمان عيشه، بتصور آليات تفصل الأجرة عن العمل، لندرته، وتضمن دخل كرامة يصون ويحفظ الحياة ذاتها. كل الباقي هي ترقيعات لاغير.

1–مقاربات متعددة وتشخيصات متنافرة

بعضهم رأى في جائحة الكورونا ظاهرة طبيعية عادية سيأتي العلم على ردعها وتخليص الإنسانية من وطأتها، وأنه من السابق لأوانه الاحتفاء بفناء العولمة، وبنمط حياتها، وان الإنسانية سوف تعود لسالف نشاطها. أما الخطر الداهم فليس في الجائحة ذاتها بقدر ما ترتب عنها من تطور مذهل في طرق وأساليب المراقبة المعممة، الممنوحة من التطبيقات التقنية المحددة لأمكنة تواجد الأشخاص وتتبع مسالك حركاتهم وتثبيت لقاءاتهم. إن النقلة النوعية من تقنية المراقبة «فوق الجلد» إلى المراقبة «تحت الجلد» هي السمة المفزعة لمصادرة حرية البشر والنبش في طبائعهم وأشواقهم وميولتهم. ومن ثمة العمل على توظيفهم حسب رغبات السلطة وطموحاتها. ذلك هو الخطر المحدق الذي يرصده مؤلف « الإنسان العاقل» والانسان الالاه» يوان نواههريري، والذي يطرح من جديد مسالة الحدود الإيتيقية التي يتعين على كل مجتمع وضعها أمام ممكنات الانحرافات   قصد فرض مراقبة مستمرة على الجميع(حمل السوار البيو متري). وهو ما رأى فيه جيورجيو أقمبنان حيلة السلطة لفرض حالة طوارئ مستمرة، أي مصادرة سلطوية للحريات. ومثل هريري كثر. ما نشهده ليس إعلان موت العولمة بل بداية تشكل عولمة ثالثة، تخصص الثورة الرقمية والانتقال الرقمي، وما تحمله من تغيرات في سلوكيات العمل وأنماطه، وربما الحلم بحصول وفاق تاريخي بين أنصار كينز وورثاء فريدمان، أي مصالحة بين الدولة والسوق، بين العام والخاص، بين التخطيط والمبادرة الحرة. وهو ما جعل البعض يتحسس «عودة السياسي»، والحنين للدولة الراعية، والتنظير للسياسة الاقتصادية « الارادية» لدفع الاقتصاد وإعادة بنائه من جديد، وكأنهم لم يفهموا كما لاحظه عن وجاهة بيتور، أن الوقت ليس للعودة لنمط الإنتاج ولعقيدة النمو الراسخة في العقول، بل في تفعيل أدوات الوقاية المستعملة ضد الجائحة، لمقاومة العودة لنمط العيش القديم والدفع نحو تغيير براديڤمات العلاقة مع الطبيعة وتفعيل جاد لمبدأ المسؤولية تجاهها وبناء «عقد طبيعي» وتفعيل مضامينه، بمنح الطبيعة صفة الذات القانونية، كما دعا له ميشال سار في كتابه الشهير: العقد الطبيعي. في نفس السياق تدعو عالمة الاجتماع دومنيك ميدي إلى ممكن آخر، يقوم على أنقاض النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي وصل إلى حدوده، بعد أن حطم البشر والطبيعة معا، وأن ما بعد كورونا هو تجسيد لقطيعات ما بعد النمو، لتحقيق المصالحة المنشودة بين الانتقال البيئي والعدالة الاجتماعية، بين العمل النافع ومعناه وشروط الحياة الإنسانية الحقيقية. هناك تماثل كما يكتب عن وجاهة، محمد شريف فرجاني بين سلعنة العالم وعولمة الأوبية، وأن مسؤولية الإنسان واختياراته المعيشية كاملة في انخرام التوازن البيئي، وتواتر الجوائح وسرعة انتشارها. إن مشروع الديمقراطية الاجتماعية هو تصور لنمط عيش مغاير، يوفق بين حقوق الطبيعة وحقوق الإنسان، يصالح بين الإنسان ومحيطه.

تلك هي بعض المقاربات حول ظاهرة كورونا وتداعياتها، لم نأتي إلا على القليل منها لضيق المساحة المخصصة لنا في هذا المقال الموجز. يمكن الرجوع إلى مقال مطول يرسم فيه كاتبه طبيعة العلاقة بين تطور نمط الإنتاج الراس مالي ونشأة الأوبئة، وطرق انتقال العدوى من الحيوان إلى الإنسان، وكيف نفهم سرعة انتشارها وعبورها للقرات.

2- جائحة كورونا: قيم الغد بين التسمية والواقع

لم يجانب ماكيفيل وهيجل الصواب عندما رصدنا في أزمنة المحن، فرصا ثمينة للتفكير.

لنفكر إذا في سمات الأزمة وفي جذورها وفي عواقبها، حتى نبني منظومة قيم جديدة، تعيد للإنسان كرامته، وللمواطن حرية المشاركة في صنع العيش معا ومنح الغيرية معناها، وإحياء قيم العدل والتضامن وتقاسم المنافع والمخاطر والتوزيع العادل للثروات. لقد كشفت جائحة كرونا على أزمة النموذج وعلى حدود المنوال، لكن كشفت كذلك على مخزون كبير من التعاطف الطبيعي بين الأفراد. لم يبق الآخر «جهنم» كما تقول وجودية سارتر، بل أضحى فرصتي، فرصة جسدتها الممارسات التضامنية المتعددة. وحتى تجربة الحجر ورغم عناصر التفاوت الاجتماعي والثقافي والرقمي، فقد رسخت قيمة الالتزام وقبول الموانع، وذكرت البشر بحقيقة الفناء المعاشرة لهم، وضرورة التعود على العيش تحت شرط اللايقين. لكن كشفت بما لا يدعو للشك عن قيمة المجتمع وثراء الحياة الاجتماعية، وحاجة الإنسان لها، وأن الأنانية ليست خصيصته، وأنه محمول بطبعه على التعاطف مع الآخر. هذه القيم هي رهان عالم الجائحة. كيف نوفق بين العدالة الاجتماعية والشرط البيئي والثورة الديمقراطية؟ لقد حطم المنحى الغير مراقب للتطور التقني ولعولمة قسرية، تحت رعاية سياسة نيو-ليبرالية متوحشة، لا ترى في الإنسان إلا وسيلة، لأن همها الأول المعلن هو الربح الأقصى مهما كانت السبل. كل هذه القيم صاغت منوالا اقتصاديا يقوم على منطق المنافسة المفرطة والمضاربة المستمرة، بدون حواجز أو معايير، وعلى التهميش المعمم لفئات اجتماعية عديدة. لا هم له، لا المجتمع ولا الطبيعة. الم يكن مسعى تاتشر في بداية الثمانيات، تفكيك كل شيء يقف عائقا أمام تحرير الاقتصاد كليا والتخلي الطوعي عن كل ما هو عام؟ لقد مضت بعيدا في تحطيم كل المرافق العامة، مثل النقل والصحة والتعليم العمومي. أكثر من ذلك، كان همها وغايتها تحطيم فكرة المجتمع ذاتها. وهو ما يعني عمليا تحطيم كل الأفكار المتعلقة بالتضامن أو التعاون، أو الكرم، أو الهبة…الخ. تصبح المهمة اليوم إعادة بناء وخياطة كل فتقات السياسة العامة التاتشارية، وهو ما يعني إعادة إدماج المرفق العام بكل عناصره في صلب عقل الدولة. فالتفكير في المابعد كورونا، هو طرح سؤال كيف. كيف نفعل قيمة المشاركة المواطنية لإنتاج المشترك العمومي؟ وكيف نسائل اللامساواة، وكيف نفعل قيمة الاقتصاد التضامني، وتثبيت قيم الجوار، فأشكال التضامن المحلية العديدة يمكن أن تحمل آفاقا جديدة ترسخ ديمقراطية جذرية تعيد التفكير في نمط إنتاج وتوزيع واستهلاك جديد، يقوم على تلبية حاجات الإنسان. ولأن الإنسان هو القيمة المثلى، يعود على المجتمع ضمان عيشه، بتصور آليات تفصل الأجرة عن العمل، لندرته، وتضمن دخل كرامة يصون ويحفظ الحياة ذاتها. كل الباقي هي ترقيعات لاغير.

Skip to content