مقالات

المساحيق ليست حلا

خطأ التشخيص الاقتصادي يؤدي الى ضعف الحلول:

طارق السعيدي
صحفي

قدمت الحكومة خلال الأسبوع المنقضي ما أسمته برنامج الإصلاح الاقتصادي. ورغم تجند حوالي 15 وزيرا من الحكومة لتقديم هذا البرنامج فإنه لم يخرج عن كونه جملة من الشعارات التي تحدد جملة من الأهداف وفق خبراء اقتصاد رأوا أنه غير قابل للتنفيذ. ويبدو واضحا وجليا أن الحكومة تسعى إلى سد العجز الهائل في المالية العمومية بأي ثمن كان وهي لذلك تسعى إلى جلب كل التمويل الممكن. ولما كان التمويل غير مضمون دون دعم صندوق النقد الدولي فإن الحكومة توجه كل الاهتمام إلى كسب موافقته على برنامجها الاقتصادي.  وقد يكون هذا الهاجس سببا قويا في هذا المردود الحكومي. وقبل الخوض في تقييم السياسات الحكومية وأولوياتها قد يكون من المناسب التذكير بما تطرحه من حلول.

إعلان نوايا

خلال الندوة الصحفية المذكورة قدمت الحكومة جملة من الحلول تبدو أقرب إلى إعلان النوايا منها الى برنامج اقتصادي يسعى إلى إخراج البلاد من أزمة خانقة. فقد تعهدت الحكومة بتكريس مبدأ حرية الاستثمار عبر إلغاء جل التراخيص والمرور إلى القائمة السلبية للتراخيص قبل موفى سنة 2022. وبالعمل على تطوير الخدمات المالية وتسهيل النفاذ لها عبر رقمنتها، و إصلاح المنظومة الجبائية عبر تحسين قدرة الدولة على تحصيل المداخيل الجبائية والعمل على إرساء نظام جبائي عادل وشفاف، وتطوير أنظمة الدفع الالكتروني. وفي ما يتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية فتطرح الحكومة ضبط قائمة المؤسسات العمومية الناشطة في القطاعات الاستراتيجية من غيرها وإعداد برنامج لتسوية الديون بين الدولة والمؤسسات العمومية وتصفية الديون المتقاطعة حسب القطاع. وفي مجال التجارة قالت الحكومة انها ستسعى الى رقمنة مسالك توزيع المنتجات الأساسية للتصدي للاحتكار. وقالت الحكومة أن إصلاح منظومة الدعم يعتبر محورا هاما يندرج ضمن الإصلاحات الكبرى كما طرحت الحكومة خلال الندوة الصحفية إصلاح منظومة دعم المحروقات مع التسريع في الانتقال الطاقي مع التوجه التدريجي نحو حقيقة أسعار المحروقات وتحرير توريد المواد البترولية. وباستثناء ما ورد من أهداف في مجال الفلاحة التي تبدو محددة بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وتوسيع دائرة الإنتاج فإنه من الواضح أن كل ما جاء في كلام السادة الوزراء هو مجرد إعلان نوايا.

التشخيص المغلوط

إن كل ما تقدم ذكره من إعلان نوايا يظل قاصرا عاجزا على أن إخراج الاقتصاد من أزمته وذلك لسبب بسيط وهو سوء التشخيص. إن ما ورد في برنامج الحكومة يستبطن تصورها لاقتصاد تونسي في حالته الطبيعية أي اقتصاد قادر على الإنتاج وعلى خلق الثروة شرط إصلاح بعض التوازنات المالية الكبرى وفي مقدمتها عجز الميزانية. غير أن الاقتصاد التونسي  في وضع أكثر تعقيدا فهو في حالة ركود كبرى تتجسد في تعطل محركات النمو التي تستوجب دفعا قويا من اجل إعادة تشغيلها أو من أجل تطويرها. وقد يكون من المهم الانتباه إلى أن تحقيق عائدات مهمة من موسم سياحي واعد أو زراعي لا يعد تعافيا للاقتصاد، وقد شهدت بلادنا خلال السنوات العشرة الأخيرة طفرات إنتاجية في الفلاحة وصلت حد عدم القدرة على تخزين القمح، كما شهدت السياحة مواسم ناجحة فاض خلالها الطلب على قدرة الاقتصاد على العرض ومع ذلك فإن مؤشرات النمو الاقتصادي مازالت ذاتها ومازالت المديونية على حالها وتفاقمت البطالة أكثر من أي وقت مضى. وبالتالي فإن تحقيق أرباح ظرفية في موسم استثنائي لا يجب أن يحجب بالمرة أن الاقتصاد التونسي يعاني من ضعف فادح في محركات النمو. فالتشخيص العقلاني للوضع هو أننا إزاء اقتصاد معطل يستوجب استراتيجية لدفعه بقوة وبثبات وهو ما لا يكون عبر الشعارات أو عبر إجراءات محكومة بهاجس الاقتراض الخارجي.

محركات النمو

وللتذكير فإن النمو الاقتصادي في أي بلد يرتكز على ثلاث محركات وهي الإنتاج، والاستهلاك، والمبادلات الخارجية. وبالنظر للوضع الاقتصادي التونسي، لا يصعب الاستنتاج أن الإنتاج معطل وذلك لعدة أسباب وهو الطابع الريعي لأهم القطاعات الاقتصادية بما يجعلها مدرة للأرباح على أصحابها ولكن غير فعالة في دفع الاقتصاد وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى قطاع إنتاج المواد الغذائية ذات الطابع التحويلي وإلى قطاع النقل الخاص وإلى القطاع المالي والبنكي الذي يراكم الأرباح عبر إقراض الدولة ولا يقوم بواجباته في تمويل الاقتصاد. أما السبب الثاني لضعف الاستثمار فهو ضعف التمويل الناتج عن ضعف تمويل الجهاز البنكي وعن ضعف الادخار التونسي الذي بلغ 7.4 بالمائة فقط سنة 2019 مقابل 33.1 بالمائة سنة 1966. (انظر الرقم البياني1).

أما فيما يتعلق بالاستهلاك فإن ضعف الأجور التي تقدر في المعدل بنحو 470 دينار شهريا في القطاع الخاص وبنحو 760 دينار شهريا في القطاع العام والوظيفة العمومية فضلا عن موجات الغلاء التي لا تتوقف واعتماد البنك المركزي على سياسات رفع نسبة الفائدة قد جعلت القدرات الاستهلاكية للعائلة ضعيفة. وبما أن الإنتاج ضعيف فقد تراجع الاستهلاك البيني. ونتيجة لسياسات التقشف والمآزق المتكررة للمالية العمومية فقد تراجع الانفاق العمومي ليتم خفض استهلاك الدولة وبالتالي فإن المكونات الأساسية للاستهلاك قد تراجعت بشكل كبير ليتأثر هذا الأخير رغم ما مثله طيلة السنوات المنقضية من رافع للنمو.

أما بالنسبة للمبادلات الخارجية فقد شهد العقد المنقضي عجزا متفاقما للميزان التجاري تراوح بين 11.6 مليار دينار سنة 2011 وحوالي 19 مليار دينار سنة 2018.  ويأتي هذا الاختلال مع العالم الخارجي نتيجة هيكلة الصادرات التونسية المعتمدة على منتجات ذات قيمة مضافة ضعيفة. وهو أيضا نتيجة ضعف القدرات التنافسية للاقتصاد مما جعله فريسة سهلة أمام كل منتوج أجنبي يكفي هنا أن نذكر غزو البلاستيك والمعدن التركي للأسواق التونسية. واضافة إلى ذلك فقد ساهم الغموض الذي يلف مصير عائدات قطاع السياحة في مفاقمة العجز التجاري، علما وأن محافظ البنك المركزي التونسي السابق الشاذلي العياري قد ذكر أن عائدات السياحة لا تدخل خزائن تونس وهو ما أكده المحافظ الحالي السيد مروان العباسي.

المساحيق لا تكفي

يبدو جليا أننا امام حالة تعثر وعطالة أصابت مختلف محركات النمو الاقتصادي وهي حالة لا تنفع معها المساحيق ومحاولات التزيين التي تعتمدها الحكومات ومنها الحكومة الحالية. إن رفع شعارات العدالة الجبائية واللوذ إلى الحوكمة والاستعانة بشعار تحرير الاستثمار تمثل مساحيق لا تمكن من تعديل الواقع. إنما الجوهر فهو في الغالب ليبرالي ولا يمكن تحقيقه. لقد بنت مختلف الحكومات برامجها وسياساتها بهدف إرضاء المانحين وذلك عبر مساعي تحقيق أهداف ثلاث هي الضغط على الأجور ورفع الدعم ووقف الإنفاق العمومي. ولمزيد تحصيل موارد مالية مثلت خوصصة المؤسسات العمومية هدفا لكل الحكومات. ورغم تعدد العناوين والمسميات والفترات فإن الشيء المؤكد هو أن مختلف الحكومات المتعاقبة قد فشلت في تحقيق في تلك الغايات فلا هي أصلحت الإصلاح الحقيقي ولا هي تمكنت من تمرير خيارات لا شعبية ذلك أن المساحيق لا تكفي لتغيير الواقع.  إن أول ما يجب أن تعلمه الحكومة هو أن اقتصادنا ليس بخير وأن عليها العمل على وضع برنامج اقتصادي وطني منبثق عن الشراكة من أجل تحريك عجلة النمو ببرنامج قادر على خلق الثروة وضمان حسن توزيعها بين التونسيين كل حسب طاقته وإسهامه وكل حسب حاجته.

Skip to content