مقالات

المنوال التنموي: في التشاركية والثقة

طارق السعيدي
صحفي

“لقد بلغ المنوال التنموي منتهاه وأصبح بالتالي عاجزا عن إيجاد لحلول للاقتصاد ولابد إذا من نوال تنموي جديد”، غالبا ما نستمع الى مثل هذا الخطاب يصدر عن الخبراء وعن الفاعلين الاجتماعيين وعن القوى الوطنية عندما تطرح بدائلها لتنمية.

في اعتقادي ان جوهر هذا الخطاب يمثل دعوة للتفكير في سياسات واستراتيجيات وفق مرجعيات جديدة تخرج من باراديغم المرجعيات القديمة وتحيلنا الى مجال اخر من التفكير يعتمد على باراديغم جديد يكون اكثر قربا من واقع في مجتمع عرف انتفاضة او ثورة او تغيرا سياسيا عميقا. ولذلك سنحاول من خلال هذا المقال استقراء التجربة التونسي وفرص صياغة منوال جديد اذا ما سلمنا بوجود منوال قديم يستوجب التعديل او التغير

المنوال التنموي

قد لا يكون من السهل عند مفهوم محدد ومسبق لمنوال التنمية على اعتبار التنمية نسق من التغير وهي نسق دائم التجدد والحركة لا يمكن ضبطه مسبقا بإطار او معايير الا في إطار مخطط مرجعي. ويقول الدكتور منجي المقدم في مقال بعنوان منوال التنمية في تونس التساؤلات الأولية المطروحة والمقومات (ليدرز العربية) ان “منوال التنمية ليس برنامجا اقتصاديا وليس مجموعة من الإصلاحات بل هو مجموعة من المحاور الاستراتيجية التي يجب اتباعها من اجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلاد ولشعب. وهو الإطار المرجعي الذي يلجأ اليه المسؤولون لتحديد الاتجاهات الاستراتيجية الكبرى التي يتم ضمنها بلورة الإصلاحات الجوهرية والسياسات العمومية”. والتنمية في اعتقادي لا تعتمد فقط على المرجعية الاطارية وجملة السياسات والاستراتيجيات، بل هي نسق تنفيذ تلك الاستراتيجيات وما يرتبط به ضرورة من حركة للفاعلين الاجتماعيين، وعلى هذا الاساس فان الحديث عن تحديد منوال تنموي بمعنى السياسات والاستراتيجيات قد لا يقدم الكثير ويكون سببا في إخفاء جوهر التنمية فالدولة الوصية على تنفيذ السياسات والاستراتيجيات هي فاعل ضمن مجموعة من الفاعلين التي قد لا تستطيع رسم حدود التنمية كما كان متحا في السابق أي في زمن الدولة الراعية فالتنمية هي ذلك التفاعل الذي يحصل نتيجة حركة الفاعلين تجاه السياسات وتجاه بعضهم البعض وهي سيرورة ومرجعها النظري أي منوال التنمية قد يمكن من تاطيرها ولكنه لا يحددها بشكل نهائي. فالتنمية باعتبارها مسارا، تستوجب المراجعة الدائمة وهو امر قد لا يحصل في ظل السيولة (على معني زيغمونت باومان) التي تتسم بها الدولة ومختلف الأطر الاجتماعية. وهذا الامر أي السيولة يطرح اشكالا كبيرا قد يكون محور مقال منفصل. بيد انه من الضروري رسم ملامح منوال تنمية جديد وتحديد المرجعيات الكبرى للعمل فهذا الامر مهم لكافة الفاعلين من اجل تحديد البوصلة او الرسم الذي سنسترشد يه الطريق. ولعل أحد أبرز السمات التي طبعت مرحلة ما بعد 2011 هو غياب تلك البوصلة مما أدى الى النتائج التي نعرفها الان من ضعف النمو وارتفاع البطالة وانتشار الفقر المدقع وانخرام التوازنات الكبرى.

من الرعاية الى التحرير

ان الحديث عن منوال التنمية زمن الدولة ما بعد الاستعمارية (اختيار هذه التسمية لتجنب الجدل الذي قد لا يبدو محسوما حول ما اذ كانت الدولة وطنية فعلا في ظل) قد لا يستقيم تماما على معنى اندري دوماس الذي يعتبر ان مجمع مخططات التنمية في البلدان النامية هي أقرب الى كونها رسما مترجما لبنية المجموع الاقتصادي وطرق اشتغاله وتطوره وهي ترجمة تظهر في شكل معادلات تجمع بين المؤشرات الكبرى (مناويل التنمية 1970). واستنادا الى ما ذكر يمكن القول اننا لم نكن في الفترة ما بعد الاستعمارية خاصة خلال السنوات من بين 1990 و2010 في اطار منوال تنموي بوصفه مرجعية فكرية للبرامج والسياسات بقدر ما كنا في اطار سياسات وبرامج براغماتية تهدف الى استدامة الحكم ولا تهتم لاستدامة النمو واحداث التطوير الضروري للاقتصاد ولميكانيزماته. وحتى لا نضطر الى الغوص كثيرا في التاريخ سنكتفي بالإشارة الى ان الفترة ما بعد الاستعمارية الأولى كانت تشهد الى حد ما تعويل السلطة الحاكمة على مرجعيات فكرية أبرزها فكرة الدولة الراعية وهي بالتالي المتحكمة في الإنتاج وفي التوزيع. وفكرة التحديث، حيث شهدت تلك الفترة عملا تحديثيا قام على دور مركزي للدولة. وانسجاما مع هذه المرجعيات الفكرية تم احداث برنامج تنموي قائم على تعميم التعليم بهدف تكوين الرصيد البشري الضروري للنمو والمراهنة عليه كعنصر أساسي تعزيز تنافسية الاقتصاد. كما تم اللجوء الى التأميم واستعادة المؤسسات من يد المعمرين في اطار حملة تونسة الاقتصاد تزامنا مع بناء المؤسسات العمومية لتكون قاطرات النمو الاقتصادي ولبناء اللبنة الأولى للنسيج الصناعي. كما تم بناء قطاع سياحي والاستفادة من تسويق صورة تونس الحداثية. وسعت عديد السياسات الى تطوير الفلاحة عبر التعاضديات والدعم الدائم. كما تم التعويل على الاشغال العامة في توفير مواطن شغل لامتصاص البطالة خاصة في المناطق الداخلة (أطروحة دكتوراه لمحمود رمضان مراكمة رأس المال والطبقات الاجتماعية في تونس 1981). ويذكر في هذا الصدد ان العامل المؤثر في كون المرجعية الفكرية والمعيارية للاقتصاد (المنوال التنموي) كانت مطبوعة بنفس اجتماعي حداثي مدني هو ان جل ما جاء في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحكومة ما بعد الاستعمارية كان من صياغة الاتحاد العام التونسي للشغل.

سير بلا هدى

اثر تلك الفترة ونتيجة لموجات التحرير التي انطلقت منذ السبعينات تغيرت مرجعيات المنوال او المخططات التنموية. وقد عرف “المنوال التنموي” في عهد ما قبل الثورة اربع ركائز كبرى وهي اولا الخوصصة والدفع نحو المبادرة الخاصة في اطار سياسات عامة لتحرير الاقتصاد. وثانيا، دعم وتعزيز الصادرات أيا كانت السيل من اجل ضمان العملة الصعبة وموارد تمويل الميزانية، وثالثا رفع المضمون التكنولوجي للإنتاج في تونس ولذلك راهن على الاقطاب التكنولوجية الجامعية اما المرجعية الرابعة فكنت الأنفاق على الخدمات العمومية من مدرسة ومستشفى بما يؤمن الحد الأدنى الضروري من الخدمات الاجتماعية الضرورية بهدف تخفيض منسوب الاحتجاج الاجتماعي. غير ان الركائز الأربعة المذكورة لم تحقق النتائج المرجوة لعدة أسبابا ابرزها المركزة المطلقة للقرار التنموي حيث يذوب الفاعل المحلي والجهوي في اطار خطة وطنية فهذه الخطة تزعم انها تهدف الى التنمية المشتركة بما يمكّن من إحلال ثمار الثروة على الجميع في حين انها تقوم بمساندة ودعم النمو في جهات على حساب أخرى بدعوى النجاعة والمردودية وبذلك اهملت الجزء الابرز من الجهات ومن الفاعلين الاجتماعيين. وثانيا صعود الفاسدين الذين تشكلوا في اطار شبه طبقة الوصوليين (تضم إضافة الى العائلات المستفيدة من الريع وبارونات التهريب، المرتشين من أعوان الدولة وتجار الشنطة من كبار الموظفين وصغار المهربين ولصوص الأفكار الاستثمارية في البنوك….و غيرهم) ولعل ابرز نقطة ضعف المسار التنموي القديم هو تاريخ تشكل الطبقة البرجوازية في تونس الذي اعتمد على الريع بعد ان قام المتنفذون في الإدارة التونسية خلال السبعينات باستغلال فشل تجربة التعاضد ليتم بعد ذلك دفع الدولة نحو التفويت لفائدتهم واجبار البنوك العمومية على اقراضهم واجبار السلطة التشريعية على سن قوانين تحمي مجالات نشاطهم وبهذا الشكل تم بيناء طبقة تنافسية غير تنافسية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بدعم الدولة. فنحن اذا قد لا نكون إزاء منوال تنموي قديم بلغ مداه بقدر ما نكون امام منوال تنموي لم يرسم بعد.

التشارك والثقة

قلنا اذا ان المنوال التنموي ان وجد أصلا لم يعد قادرا على تلبية الحاجيات المتعددة للفاعلين وهو ما يفترض التفكير في منوال جديد وقد لا نبالغ بالقول ان المنوال الجديد قد يكون المنوال الأول من نوعه. بيد ان المناويل السابقة قد قامت على دور مركزي للدولة حيث مررنا من الدولة الراعية او الدولة الساهرة على التفويت والخوصصة. وقد ارتكزت تلك المناويل على قدرة الدولة باعتباره فاعلا اجتماعيا فوق العادة هو امر لم يعد متاحا في الوضع الحالي. فالبلاد محتاجة الى منوال جديد يصاغ تشاركيا ويتم من خلاله رسم التوجهات الكبرى وترتيب الأدوار داخل هذه التوجهات. وهو ما يستوجب الحوار كما يستوجب منسوبا عاليا من الثقة بين الفاعلين في إطار المراجعة الذاتية الدائمة. قد يكون هذين الامرين أي الحوار والثقة ابرز اختبار على التونسيين اجتيازه.

Skip to content