مقالات

الميزانية والاقتصاد ومازق النمو

طارق السعيدي
صحفي

بلغت ميزانية الدولة لسنة 2021 خلال قانون المالية التعديلي حوالي 55520 مليون دينار مقابل 51804 مليون دينار كانت متوقعة فقي القانون الأصلي. في حين بلغ الناتج المحلي الخام حوالي 110295 مليون دينار. هذه الأرقام تعكس مفارقة محيرة وهي ان ميزانية الدولة تساوي نصف الناتج المحلي الخام وهي معادلة لا تستقيم مطلقا في ظل اقتصاد ليبرالي.

الاقتصاد الريعي وفخ التخلف

وانطلاقا من هذه المفارقة المذكورة انفا يمكن ان تتولد عديد الملاحظات منها ان الاقتصاد التونسي ضعيف وهش اذ لا يعقل ان تلعب ميزانية الدولة كل هذا الدور وان تكتسب هذا الثقل في اقتصاد ليبرالي. وقد أدت السياسة التحريرية للاقتصاد التونسي التحرير الى خفض عدد المؤسسات العمومية من 2200 في اواخر السبعينات الى 200 مؤسسة في الوقت الحالي في حين قفز عدد المؤسسات الخاصة بمختلف اصنافها الى حدود 680 الف مؤسسة في 2017 منها حوالي 640 مؤسسة عائلية و37 الف مؤسسة صغرى ومتوسطة واكثر من 2190 مؤسسة كبرى. وجود كل هذا الكم الهائل من المؤسسات الخاصة يفترض بداهة ان يطغى تأثير القطاع الخاص وعلى دور وتأثير لقطاع العام وان لا تحتل ميزانية الدولة كل هذه المكانة غير ان هذا لم يحصل. هذه الملاحظة تحيلنا على عدة استنتاجات، اولاها ان القطاع الخاص الذي حل محل القطاع العام لم يكن نتاجا طبيعيا لمسار تطوير الاستثمار الخاص والمبادر بقدر ما كان مرتبطا بظرفية خاصة خلال السبعينات نشأت من رغبة الدلولة في الخوصصة وبروز مجموعات ضغط من داخل الدولة حولت الامر الى فرصة خاصة وخصوصية لا تتكرر في التاريخ، فرصة لتحويل ملكية الشعب التونسي لفائدتهم. اما الاستنتاج الثاني فهو ان هؤلاء المتحكمين الجدد في الإنتاج ليسوا معنيين بتطوير الاقتصاد بل ان تحتل مؤسساتهم ومواقعهم الإنتاجية مركز الصدارة في الإنتاج بما يسمح بالتحكم في العملية والإنتاجية ومن تحقيق الارباح. ولضمان التحكم في الإنتاج في الإنتاج لا يقوم المتنفذين في الإنتاج في تونس بتطوير المؤسسات بل يعملون الى غلق المنافذ امام كل من يرغب الدخول الى مجال انتاج الثروة، والى إزالة المنافسين المحتملين. فالاقتصاد الريعي وارتباط المصالح السياسية والجهوية بمصالح رايس المال قد خلقت اقتصادا واقعا منذ البداية في فخ التخلف ان كل الأفكار المذكورة انفا تبرز بوضوح في تقرير معهد المنافسة الاقتصادية الصادر في 2010 حول الخوصصة في تونس ويتحدث التقرير بكل وضوح على ان المتنفذين في الدولة التونسي كبار الإطارات خلال فترة السبعينات هم من قادوا عملية الخوصصة لفائدتهم فقد دفعوا الدولة والحكومة الى التفويت في القطاع العام وضغطوا بما ليدهم من سلطة وارتباطات سياسية وجهوية على البنوك من اجل اقراضهم ليتمكنوا من شراء المؤسسات التي المخوصصة ثم قاموا بعد ذلك بمراجعة القوانين واغلقوا المنافذ امام أي منافسة عبر وضع شروط تعجيزية (كل هذه الاحداث ترد في التقرير المذكور بشكل مفصل)

الاقتصاد الموازي يخفي الحقائق

الملاحظة الثانية الكبرى هي ان الاقتصاد الرسمي والمعلوم لدى الجميع هذا الذي يتم احتساب نسبة النمو على أساسه ليس هو ذات الاقتصاد الفعلي الذي تتم فيه عملية الإنتاج والتوزيع. ان إخفاء النشاط عن الدولة وعدم التعريف به او إخفاء اجزاء كبرى من النشاط وراء واجهة ضئيلة من النشاط المعلن تؤدي ضرورة الى الخلط والى التمويه عن الحقيقة الفلعية أي حقيقة الإنتاج والتوزيع.

فحين نعلم ان الاقتصاد الموازي يساوي على اقل تقدير 50 بالمائة من الاقتصاد التونسي أي ان الإنتاج الفعلي للثروة والقيمة المضافة المسجلة ليست 110 مليار دينار بل هي 220 مليار دينار. ان ابرز ما يخفيه هذا الرقم ليس الحقيقة الاقتصادية التي قد تساعد في تفسير المفارقة بين تضخم ميزانية الدولة في اقتصاد ليبرالي بل واقع العمال وسط هذا القطاع. فاذا كان العمال في المؤسسات المهيكلة يكابدون يوميا من اجل نيل حقوقهم وفق الحد الأدنى القانوني فماذا عن عمال لا نعلم أصلا بوجودهم الا من خلال اثارهم او ما نلاحظه من تضحيات تمر امام اعيننا كالصراع اليومي المرير للنصابة في اغلب انهج المن التونسية او تلك المشاهد المرعبة عن واقع المرأة العاملة في القطاع الفلاحي وطرق نقلهن اللاإنسانية. وتشير الأرقام الرسمية الى ان القطاع الموازي يستقطب حوالي 1.5 مليون عامل 60 بالمائة منهم لم يتجاوزا المستوى التعليمي الابتدائي. ويتوزع العاملون في القطاع الموازي أساس على قطاع البناء 33 بالمائة وقطاع التجارة 26 بالمائة وقطاع النقل 09 بالمائة. وتمثل المرأة 17 بالمائة من الناشطين في القطاع الموازي اغلبهم ف ي قطاع الفلاحة والنسيج.

إزالة الحواجز والتاطير

ان معالجة المفارقة العجيبة المذكورة في بداية المقال تستوجب أولا القطع مع الاقتصاد الريعي وذلك عبر رفع كل الحواجز امام الاستثمار الخاص وتحرير المبادرة وفتح افق جديد امام راس المال من اجل ان يجد طريقه للنمو خارج سطوة المتنفذين. كما يمر أيضا عبر تاطير القطاع الموازي ان قدرة الدولة على تسليط النور على هذا الاقتصاد سيعيد الاعتبار للمنافسة بين المؤسسات خاصة في ظل تضرر المؤسسات المهيكلة من نشاط المؤسسات الخفية في ثنايا الاقتصاد الموازي. كما سيثمن دور القطاع الخاص الذي اختار بطوعية انكار دوره. ان محاصرة الاقتصاد الموازي وفرض رقابة الدولة على كامل النشاط الاقتصادي واستخلاص حق المجموعة الوطنية في الثروة المنتجة سيمكن حتما من الخروج من المفارقة العجيبة. ولذلك فن الميزانية القادمة باعتبارها المرجعي لسياسات الدولة لسنة 2022 يجب ان تتضمن سياسات في هذا الاتجاه سياسات قادر فتح افق جديد نحو بناء نوال تنمية جديد يقطع مع منوال التخلف الذي نعيش على وقعه.

Skip to content