مقالات

بعد القضاء، هل تتجه السلطة البلدية أيضا نحو التوظيف؟

نصر الدين ساسي
صحفي

أصدر رئيس الجمهورية مطلع هذا الشهر مرسوما يقضي بحل المجالس البلدية، أسابيع قبل اجال انقضاء المدة النيابية للمجالس البلدية وتعويضها بنيابات خصوصية. وإن كان حل المجالس البلدية أمرا منتظرا إلا ان اعتماد صيغة النيابات الخصوصية التي كانت قد أثارت الكثير من الجدل إثر الثورة. ويطرح هذا الخيار عديد نقاط الاستفهام حول مستقبل الحكم المحلي في تونس وحول مصير اللامركزية في علاقة بالمسألة الديمقراطية وفي علاقة كذلك بالخيارات التنموية جهويا ومحليا وضمان تشريك المواطنين فيها. لكن من الواضح راهنا غياب الإشارات حول الخطوات القادمة في علاقة بمنظومة العمل البلدي من ذلك عدم الحديث عن الاستحقاق الانتخابي وعدم التعرض إلى الإطار التشريعي المنظم للعمل البلدي بعد إلغاء العمل بمجلة الجماعات المحلية.

الخارطة البلدية والجغرافيا السياسية

غياب الإشارات الواضحة حول التمشي المستقبلي في علاقة بالعمل البلدي يدفعنا إلى محاولة استقراء الفرضيات المطروحة على المدى القريب أولا، حيث يمكن العودة إلى قرار حذف وزارة الشؤون المحلية في نوفمبر 2021 وإلحاق هياكلها المركزية والجهوية بوزارة الداخلية، وهذا بحسب بعض المختصين يطرح فرضية اعتماد القانون المؤرخ سنة 1975 المتعلق بالبلديات والذي ينص على أن “البلدية تحدث بأمر باقتراح من وزير الداخلية بعد أخذ رأي وزيري المال والتجهيز وينص الأمر المحدث لها على اسمها ومقرها ويضبط حدود منطقتها”. هذه الفرضية الأولى ستبعد البلديات عن مدار السلطة المحلية وتحد من دورها في تحديد الخيارات التنموية جهويا ومحليا لتجعل منها ذراعا لتنفيذ المقاربات والخيارات المركزية.

هذه الفرضية الأولى لا تخلو من تحديات من بينها صياغة الخارطة البلدية الجديدة وترسيم حدود البلديات الأمر الذي كان مثيرا للجدل والخلافات بين عدة مجالس بلدية وصل حد اللجوء إلى القضاء بين بلديتي المرسى ورواد. لذلك فإن حصر الملك البلدي وإعادة توزيعه رهان كبير إذا ما ستتم مراجعة الخارطة البلدية، كما يطرح في نفس الوقت تحديا آخر في علاقة بمختلف المصالح الإدارية والمرافق الخدمية مما قد يخلق لخبطة كبيرة يصعب تنظيمها.

إعادة صياغة الخارطة البلدية قد يحمل معه أيضا إشكاليات أخرى على مستوى الجغرافيا السياسية من جهة البناء التقليدي القائم في عديد الجهات والمناطق الداخلية على الاعتبارات القبلية و”العروشية” ونصيب كل شق من التمثيلية صلب الهياكل المنتخبة، حيث كانت الهياكل المحلية والجهوية تشكل تعويضا في شكل “ارضاءات” عن عدم التمثيلية في الهياكل المركزية، على غرار البرلمان والمجلس الوطني للجهات والأقاليم. لذلك فإنه من الأهمية بمكان النظر في مجمل هذه التحديات ضمن مقاربة جديدة تضمن بشكل واسع مبادئ التمثيلية الحقيقية القائمة على الكفاءة والقدرة على الإضافة بالتوازي مع دعم مقومات التشاركية والمساءلة على مختلف المستويات بداية من المحلي إلى الجهوي وصولا إلى المركزي.    

وحدة الدولة ووحدة السلطة

يرتبط مفهوم اللامركزية بشكل عام بتفويض السلطة لهياكل محلية وجهوية منتخبة لاعتماد خيارات تنموية فيما يعرف بالتدبير الحر وفي إطار وحدة الدولة. لكن في الوضع الراهن وإلى حد الآن لا يبدو خيار مواصلة البناء اللامركزي مطروحا، أولا بالنظر إلى عدم التنصيص عليه صراحة ضمن الدستور الجديد الذي نص الباب السابع منه على أن “تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالح المحلية والجهوية حسب ما يضبطه القانون”. ويشير مختصون في القانون الدستوري في هذا الصدد إلى أن الباب السابع من الدستور قد أغلق الباب أمام خيار اللامركزية ونزع السلطات من الجماعات المحلية وقد تختلف التبريرات ههنا بين من يعتبر أن خيار اللامركزية يحظى بنسب نجاح ضعيفة بالنظر إلى ضعف الموارد المالية والبشرية والبنى التحتية بالجهات الداخلية وبين من يرى فيه ضربا لوحدة الدولة وخروجا عن سلطتها المركزية. ويرى آخرون أن استبعاد خيار اللامركزية يندرج ضمن مشروع التأسيس لما يعرف بالبناء الديمقراطي القاعدي المتكون من مجالس محلية بعدد المعتمديات 264 ومجالس جهوية بعدد الولايات 24. هذه الفرضيات مجتمعة تدعم بشكل كبير عدم التحمس الجلي لدعم صلاحيات البلديات بجعلها واحدة من بين السلطات وتؤكد الاتجاه الحثيث نحو الجمع بين وحدة الدولة و وحدة السلطة.

الأجسام الوسيطة والخط الثالث

الفرضيات التي استعرضناها في ما سبق وليدة تحاليل وقراءات عديد المختصين وذلك بالنظر إلى شح المعطيات والمعلومات حول الخيارات المبرمجة وبالنظر كذلك إلى ضعف مستويات الحوار الاجتماعي والتشاركية مع مكونات المجتمع المدني، وفي مقدمتها النقابات، خصوصا مع بروز المفهوم الجديد الذي يعتبر هذه المكونات أجساما وسيطة ويستثنيها من المشاركة في القرار والتمثيلية ضمن مكونات الهرم المقلوب للبناء القاعدي الذي يتجه مباشرة نحو الأفراد انتخابا وتمثيلا وسحبا للوكالة.

ضمن هذا المشهد الجديد، تطرح على مكونات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب التي لم تكن ضالعة في الإرهاب والتسفير ولم تكن شريكة السواد في العشرية الماضية والعشريات التي سبقتها تحديات مستجدة لبناء خط ثالث وتشبيك العلاقات قصد البحث عن منافذ لتفعيل التشاركية وبناء أرضية صلبة للحوار حول الخيارات الوطنية ولعب أدوارها التعديلية وتحمل مسؤولياتها الوطنية لإنقاذ البلاد من أزمتها المعقدة.

Skip to content