مقالات

بنوك الغضب

فطين حفصية
صحفي
أحدث الفيلسوف الألماني والشخصية الجدلية في الساحة الفلسفية الألمانية والعالمية بيتر سلوتردايك (1947) انتقالا مفصليا في مفهومي الخوف والغضب في الحقل الفلسفي السياسي عندما أصدر كتاب “الغضب والزمان” في العام 2007  وأدار سلسلة حلقات في برنامج  “المربع الفلسفي” الذي يتابعه ملايين الألمان على قناة ZDF  الألمانية حين نقل الفلسفة من جدران القلاع الأكاديمية نحو الجمهور العريض.
 
الفيلسوف الذي كلما تكلم شغل الناس اعتبر أن إدارة المجتمعات والدول الديمقراطية تتم عبر الخوف والتخويف وتصديره لعقول الناس كنوع مما يسميه بـ “الفوبوقراطية” رغم حالة إنكار الدول للأمر، ومن ذلك مثلا صنع الإرهاب وتحويل عملية إرهابية في أقصى قارة أوقيانوسيا إلى “بعبع” في أدنى دولة أوروبية، لكن المصطلح الذي استفرد بالتنظير له هو البنك العالمي للثأر الذي ستنطلق منه إعادة قراءته إلى التاريخ السياسي الغربي والعلوم السياسية بحقولها المختلفة.
في هذه القراءة يرى سولتردايك أن الغضب محرك أساسي في العمل السياسي والحضارة الغربية معتمدا على مقاربة تحليلية نفسية سياسية، فالفرد مثلما يمر بلحظات تملك وتمتع وفرح وما إلى ذلك يعيش أيضا لحظات فخر وغضب وانتقام، ومن هذه العائلات العاطفية تنشأ داخله الطاقة الإيجابة والسلبة وتتعايش، ويتابع في تفكيكه للمصطلح أن هذا الغضب ينتقل من بعده الشعوري الغريزي شيئا فشيئا  ليتجمع في ما يسميه بالبنك العالمي للثأر الذي تصبح “مدخراته”  نوعا من المشاعر الفياضة للتمرد لدى فئة ما وتحويلها إلى “عملة” جارية للوصول إلى السلطة وهو ما تم استثماره جماهيريا مثلا من قبل البنك الشيوعي للغضب الذي قامت على إثره الثورة البولشيفية في روسيا القيصرية في العام 1917 أو في ثورات كبيرة أخرى.
 
وإذا استدعينا الحالة التونسية على ما يطرحه الفيلسوف الألماني المثير للجدل وطبقنا مقولة غرامشي أن الفلسفة سياسة سنجد أنفسنا أمام “بنوك تونسية غاضبة” أو جموع يتقاسم كل منها غضبه لوحده، وقد ينطبق ذلك مثلا على من لا عمل لهم أو على الفقراء أو على المهمشين أو أصحاب الأموال والمصالح أو إحدى الطبقات المتجانسة في المجتمع أو سكان جهة أو إقليم ما أو فئة أو قطاع بعينه وأخيرا وهو جوهر الموضوع المهم في هذه القراءة النفسية السياسية بنوك الغضب الحزبية والسياسية المنتشرة من أقصى اليمين الديني إلى أقصى اليسار الراديكالي مرورا ببقية العائلات السياسية والتيارات الموجودة في تونس منذ ما بعد الاستقلال. 
 

لقد أصبح الفضاء الافتراضي يعج بهذه البنوك التي لا تقبل سوى الحرفاء الذين يشبهونها أو المريدين الذين يتماهون في النظرة والموقف والتعليق فيمكن أن تبحر في صفحة ما لحزب سياسي ما أو شخصية حزبية ما  أو حاكم ما (رئيس جمهورية، رئيس برلمان، رئيس حكومة) وبمجرد كتابة تعليق مخالف لما يريده حرفاء هذا البنك ستجد نفسك حتما عرضة لما يشبه “القصف التعبيري المركز” لهؤلاء الغاضبين الذين دخلت بنكهم دون أي رصيد ولاء أو صك تماه مع ما يريدون رؤيته وسماعه وتدوينه.

أبعد من ذلك يجد هذا الخطاب السائد والعام نوعا من الفخر والحماسة والاندفاع للأقصى لدى هؤلاء المريدين ويصبح غضبهم الخاص بهم موقفا سياسيا إطلاقيا ينهل دوما من السخط والغضب والقلق فيندفعون دون أي حجة عقلانية نحو المطالبة بطرد فئة ما مثلا،

يمكن هنا قيس مثال تم في حالة المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء  بعد تداول تقارير حزب تونسي حول أعدادهم ووجود مخطط كبير لتوطينهم ثم التصريح الرسمي الرئاسي في اتجاه هذا “الاستبدال الكبير”، أو  اتخاذ إجراءات أو قرارات بحق مكون أو قطاع أو هيكل ما، وهنا نضرب المثل بحالة بنوك الغضب المعادية للإعلام والأحزاب والنقابات حين تتحرك هاته الحشود في مساحات اللاعقلانية بتعميم ممارسة الإعلام لأجندات  أو الأحزاب للمؤامرات والخيانة أو النقابات لـ “وضع العصا في العجلة” وما إلى ذلك من العبارات التي يزخر بها القاموس الجماعي لهذه الجموع “المقولبة” التي لا تقبل ولو للحظة مبدأ الاختلاف والتباين أو النقاش أصلا.
 
إن تعبئة موارد الغضب تتم لدعوتها من الفضاء الافتراضي نحو الميدان الواقعي وهو الأمر الأخطر الذي أدى أحيانا إلى بعض أحداث العنف المادي واللفظي التي يقع ترحيلها بدورها  إلى منابر الإعلام ومساحات التعبير، والمثال الذي يجسد كأفضل ما تكون الصورة بنوك الغضب الحزبية والسياسية في تونس وانتقالها للشارع الاحتجاجي والسياسي هو المظاهرات التي تتم بمناسبة يوم وطني أو ذكرى لها دلالاتها الرمزية في الفكر الجمعي كيوم الاستقلال أو 14جانفي ،حينها ستجد على طول شارع الحبيب بورقيبة “بنوكا خاصة” بكل حزب أو شخصية سياسية فلا يقرب أحد من غاضبي هذا البنك أو ذاك البنك الآخر الذي لا يتماشى وهويته السياسية أو الحزبية أو موقفه من قضية ما إذا أردنا التخصيص أكثر في بعض الحالات المجتمعية الأخرى كقضية المساواة في الإرث أو المصالحة الاقتصادية أو الهوية والدين…
 
إن هذا”الاستثمار الجماهيري” حقق في الحقيقة أهدافه في محطات سياسية وانتخابية عديدة في تونس منذ 2011  فقد رأينا بنك الغاضبين من نظام الرئيس الراحل بن علي اتجه في الأغلب في انتخابات المحطة التأسيسية نحو معارضيه الذين أتقنوا دون شك وقتها تحريك مشاعر الغاضبين من معاداة الدين واضطهاد المتدينين والمعارضين، أما في المحطة الثانية فقد سحب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي حرفاء كثيرين نحو بنك الغضب الحداثي الوسطي التونسي ولعب كأفضل ما يكون دور مدير البنك الجامع  للروافد الدستورية التجمعية اليسارية النقابية الغاضبة، وفي المرحلة الأخيرة سحب رئيس الجمهورية قيس سعيد جموع الغاضبين من كل هؤلاء إلى “بنك تفسيري” أهله لأن يحصد ما يزيد عن 600 ألف “غاضب” في الدور الأول من انتخابات الرئاسة  وما يقرب من 3 ملايين “غاضب” في الدور الثاني الذي قاده رسميا إلى قصر قرطاج.
 
يبدو الأمر بعد كل هذه التجارب منطقيا لكن السؤال الأكثر منطقا هو هل يمكن لهذا الغضب أن يستمر دوما عبر تغيير الأشخاص أو النظم وإلى ما لا نهاية عبر البحث دوما عن حالة فراغ أو فشل لإحداث التغيير أو الخلاص ؟ أم لابد من الانتهاء إلى إعلان بعض من الواقعية التصحيحية عبر القول أو الاستنتاج بعدم صحة وفشل جميع أنماط هذا الغضب القائم على أساس مبدإ الثأر والانتقام دون سابق تدقيق أو واسع تدبير ؟ 
حقا إنها أسئلة تستدعي حالة استثناء في التفكير.
Skip to content