مقالات

بوعلي المباركي… سفر نقابي، ثبات العروبي

فطين حفصية
صحفي

في يوم شتوي ساخن منتصف  ديسمبر من العام  2013   كان التونسيون ينتظرون بترقب كبير صعود الدخان الأبيض من بناية مجلس المستشارين سابقا حيث تجري مشاورات اللحظة الأخيرة من جولات الحوار الوطني لإعلان اسم رئيس الحكومة غير المتحزبة..  وعند تلك الردهات الصعبة ظل الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل بوعلي المباركي يقطع بابتسامته العريضة مرارا على الإعلاميين “تسمرهم” المتواصل في ساعات انتظار  طويلة ببهو المجلس بالقول خارج دائرة التصريحات الرسمية إن  “الشقف” –  وهذه المرة شقف البلد بأكمله وليس المنظمة الشغيلة فحسب-  يسير بثبات نحو مرساه.

 وفعلا بعد “مفاوضات ماراطونية” تجاوزت الزمن المحدد أعلن الرباعي الراعي للحوار، بقيادة أمين عام الاتحاد التونسي للشغل حسين العباسي،  في ندوة صحفية تاريخية عقدت ليلا عن توصل الفرقاء السياسيين  إلى اختيار شخصية مهدي جمعة لتولي الحكومة التي ستخلف حكومة الترويكا اثنين بقيادة علي العريض والإعداد لانتخابات 2014 ما سيسمح بـ” وقت سياسي واجتماعي مستقطع ” يمنع انزلاق الانتقال الديمقراطي نحو الخطر.

في غمرة الفرح بمآل وآمال “عودة العقل وانتصار الرشد” حزم المباركي، بعد ارتداء معطفه الشتوي الأسود،  لفيفا من وثائقه  المتصلة بهذا الحوار مذكرا الصحفيين قبل وداعهم أن الأهم تحقق وبقي المهم في تنفيذ بنود خارطة الطريق المطروحة ما سيحتم متابعة جولة ترتيبية تقنية رغم الإجهاد واستنزاف الوقت، وعبرها يتم استكمال الخطوة الباقية من رحلة الألف ميل وكأنه يطلب وقتها هدنة مؤقتة من الجبهات المفتوحة أمامه نقابيا واجتماعيا وسياسيا.

 لا تحفظ الذاكرة  التي كتبت عن يوميات الحوار الوطني  أن بوعلي شغل، عند اشتداد “المخاض العسير للمفاوضات”، دور رجل المطافئ في كل عثراتها  فقد كان رجل ثقة لدى الخصوم والحلفاء  برئاسته لجنة الربط والتنسيق بين المجلس الوطني التأسيسي  والمشاركين في الحوار الوطني. فما إن يطل شبح أي أزمة بين بعض مكونات “سيد نفسه” وأطراف طاولة الحوار يسارع  إلى الدفع بأدوات تطويقها كحال لاعب رقعة شطرنج فلا حركة دون حساب ما بعدها.

لعله أيضا كان من القلة القليلة القائلة بالحاجة إلى تأسيس “فقه أخلاقي تفاوضي بين فرقاء الساحة السياسية” أو نوع من  العرف المؤسساتي لإدارة أزمات أخرى قد تعرفها البلاد – وعرفتها فعلا –   وعبر هذا التوجه قاد رؤية تدعو إلى اتخاذ الحوار الوطني شكلا من أشكال المأسسة المعنوية والرمزية  كآلية “فض الاشتباكات الوطنية”.

صور محمد كريم السعدي

لم  يسترح الراحل إلا وقد استوت كل خطوط خارطة الطريق المطروحة فكتبت تونس دستورا جديدا وانتهى “الإعصار السياسي” بانتخابات نقلتها من مرحلة التأسيس إلى التثبيت، ومن مرحلة الاستقطاب إلى توافق نتائج الصندوق  فكان ذلك فاتحة إعلان لجنة نوبل للسلام في شاشات العالم فوز الرباعي الراعي للحوار الوطني بجائزة نوبل للسلام التي سيتسلمها شتاء العام ألفين وخمسة عشر.

منذ حطت الطائرة الخاصة التي استأجرها الاتحاد لنقل وفده وعدد من الطواقم الصحفية بالعاصمة النرويجية أوسلو كان المباركي يتابع كل تفاصيل المهمة في النزل المخصصة للإقامة والتظاهرات الموازية للتعريف بتونس، التي دخلت النادي الديمقراطي، وينسق اللقاءات النقابية الموازية  بوصفه صاحب”الهندسة الإدارية والمالية” في تلك الرحلة التاريخية.

أما إذا أعدت مسيرة الرجل، سنوات طويلة إلى الوراء، فستجد أنها تفيد أنه كلما أرجعته يوميات الحياة خطوة قفز بعدها خطوتين فقد  انتقل”لاجئا دراسيا ”  من المكناسي نحو قفصة ثم صفاقس لانخراطه في النضال التلمذي وأعادته الحرب العراقية الإيرانية اوائل الثمانينات على أعقابه في صفاقس منهيا تعليمه في الكيمياء  ليكملها هذه المرة “لاجئا” شغليا من المجمع الكيميائي بالمظيلة إلى مصنع للمواد الكيميائية ببن عروس ومنه نحت مسيرة نقابية متدرجة من القاعدة إلى القمة بصعوده المكتب التنفيذي في مناسبتين.

جمع الرجل عصارة أكثر من ثلاثة عقود من العمل النقابي تزامنت مع خط عاشوري سائد وانتهت بتمظهرات جديدة للفعل النقابي، ويذهب مقربون منه إلى وصف فلسفته النقابية بالبسيطة فلا هي لينة فتعصر ولا هي صلبة فتكسر كما ساعدته خصاله الحوارية والهادئة وقدرته على الاستماع الطويل وتوليف المتاح مع المؤجل على التوغل في قضايا عمالية واجتماعية معقدة وآخرها الخاصة بأم الأزمات في تونس:  أزمة الفسفاط.

إن انحيازه للعمال بالفكر والساعد لم يعطل انحيازه لمدرسته السياسية الأولى، وإن باحتشام تنظيمي، فعندما طرح القوميون في تونس إثر الثورة أسئلة العمق الديمقراطي ووحدة “أممهم السياسية المتناثرة في أمة واحدة” جمع  كل جهده لتقريب المسافات بين بني انتماءه  إثر سنوات من النشاط النضالي تحت الأرض فرضتها طبيعة النظام الديكتاتوري والانطلاق في تثبيت أرضيتهم السياسية خطا ثالثا بين السرديتين المضادتين: اليسار والإسلاميين لكن هذه المرة خارج أسوار الجامعة.

توافق الإخوة والرفاق على التقاط لحظة تاريخية للتيار العروبي في تونس وترشيح الراحل لرئاسة المؤتمر التوحيدي لحركة الشعب الوحدوية التقدمية ورغم بعض الخلافات التي نجح في تطويقها عند استعادة النقاش حول روابط القومي بالقطري وتسجيل بعض استقالات “لزعامات أبوية للطيف القومي في تونس” إلا أنه بقي من  الماضين في خيار التجميع مستعينا بالصبر النقابي لنقل الصبر السياسي إلى النواة الأولى الجامعة للعائلة القومية.

قلة تعلم أن الراحل فضلا عن أخوته في الانتماء العروبي هو أخ في الرضاعة للشهيد محمد البراهمي وأنهما فضلا عن سفرهما النضالي والمبدئي لنصرة القضايا العربية من فلسطين إلى العراق إلى سوريا ساهما في دحرجة كرة اللهب الشعبي التي انطلقت من “معقلهما” العائلي والتنظيمي بسيدي بوزيد وما جاورها تحريضا وتحشيدا وتنسيقا، ولما ضاق الحصار على مدن ولاية سيدي بوزيد والقصرين بداية جانفي كان بوعلي يجمع لفيفا طلابيا من “الطلبة قوميون”  بباب الجزيرة لمزيد توزيع الأدوار في المظاهرات والاحتجاجات اليومية وإسناد الحراك الشعبي بصبر ساعة في طريق انجلاء الغمة.

رحم الله الشهيد والفقيد 

Skip to content