ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

تساؤلات كبرى حول قدرة الاقتصاد التونسي من أن يجعل هذا التداين مستداما

الأستاذ والخبير الاقتصادي الحبيب كراولي

نصر الدين ساسي
صحفي

بداية يجب الإقرار بأن الازمة التي تعيشها تونس حاليا انطلقت بوادرها قبل 17 ديسمبر – 14 جانفي خصوصا مع احداث الحوض المنجمي عام 2008 والتي كانت شرارة الانطلاق لطرح تساؤلات منهجية حول السياسات المتبعة منذ عقود وصلت إلى حدودها ووجب مراجعتها، ثانيا دوافع ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي كانت اساسا اقتصادية واجتماعية خاصة في علاقة ببطالة الشباب وتنامي الفوارق الجهوية وانخرام مقومات المساواة وتكافؤ الفرص بين الجهات ولم تكن بالأساس دوافع سياسية إذن هناك سوء فهم في هذا الجانب.

كما أن الفشل الذريع خلال السنوات العشرة الاخيرة يكمن في عدم قدرتنا على توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية نحو الحد من تلك الظواهر والفوارق والعمل على إيجاد حلول منطقية ومعقولة لها بل ركزنا على مسائل اخرى لم تكن من المطالب الأساسية للشعب التونسي وشبابه وبقينا ندير المسائل بنفس السياسات القديمة أي بنفس المنوال وبنفس قوانين المالية لكن مع دولة ومؤسسات أضعف من ذي قبل وبأقل إمكانيات وهذا يطرح مشكل الجدوى بالنسبة للدولة التونسية ولأجهزتها.

كل ما كان موجودا قبل الثورة من تحكم على مستوى عجز الميزانية أصبحنا نسجل الان تفاقما كبيرا لهذا العجز، وكان هناك أيضا تحكم في مستوى المديونية أما الان فاقت المديونية الناتج المحلي الخام لتصل إلى نسبة 107 %من الناتج المحلي وأصبحت تطرح مسألة هامة بالنسبة للاقتصاديين وهي مسألة استدامة المديونية لان المشكل لا يتعلق بمستوى الدين فعديد بلدان العالم نسب التداين لديها تفوق الناتج المحلي لكن نسب النمو تمكن من إيجاد فائض أولي على مستوى الميزانية وعلى مستوى النمو وبقية المؤشرات تمكن من سداد هذه الديون ولذلك هناك تساؤلات كبرى حول قدرة الاقتصاد التونسي من أن يجعل هذا التداين مستداما.

العنصر الثاني هو تفاقم البطالة خصوصا في صفوف الشباب والتي فاقت 18 % لكن عندما نعمق التحليل بالنسبة للشباب بين 18 عاما و 24 عاما فإن نسبة البطالة تصل إلى 36 % خاصة بالنسبة لحاملي الشهائد العليا لذلك يجب توجيه سياساتنا الاقتصادية نحو هذه الفئات، أما العنصر الاخر الذي ظهر إثر أزمة الكوفيد 19 فهو بطالة من نوع جديد بطالة من كانوا يشتغلون وفقدوا مواطن شغلهم وهذا يقتضي معالجة مختلفة تماما وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل اقترح خلق وبعث صندوق لتأمين البطالة لمن فقدوا مواطن شغلهم مظاهر الازمة اصبحت مختلفة وتفرض على صانعي القرار والسياسات إيجاد مقاربات جديدة.

الحلول الراهنة غير المدروسة وغير المسقطة على أهداف معينة يمكن ان تكون مشاكل الغد

على مستوى صياغة السياسات نحن كنا ننتظر من القوى السياسية والهياكل الوسيطة ان تكون قوة اقتراح في السابق التجأت حكومة الاستقلال الى البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد. وحاليا تراجعت القدرات بخصوص المقترحات وما هو مطروح حاليا يركز أكثر على معالجة المشاكل اليومية والراهنة ولذلك فإن الحلول الراهنة غير المدروسة وغير المسقطة على أهداف معينة يمكن أن تكون مشاكل الغد واقتصاد الغد سيكون أكثر اجتماعية وأكثر احتراما للبيئة وأكثر استدامة  هذه العناصر الثلاثة الي يجب أخذها بعين الاعتبار في صياغة خيارات المستقبل وهذا للأسف غير موجود حاليا.

هناك عنصر اضافي وهو وجوب أن تكون لنا تصورات بالتشاور مع كل القوى الحية وكل الأطراف لإقرار خيارات وحلول من الداخل وعدم التركيز فقط على المديونية لذلك يجب أن نكون واعين بهذا حتى لا نخسر هامش قرارنا الداخلي وقدرنا على التصور والاستنباط داخليا وبالتالي طالما لم نحدد الخطوط الكبرى على مستوى تحديد الرؤية أولا وتحديد الإستراتيجية التي تترجم لاحقا إلى خطة عملية هذه العناصر الثلاثة لا غنى عنها في أي خطة أو خيار، نحن حاليا لا توجد لدينا رؤية على مستوى الاستثمار وعلاوة على عنصر رأس المال والعمل، فلابد من توفر عناصر الثقة والاستقرار على المستويات التشريعية وليست الأمنية فقط. لذلك فإني أركز دوما على المستويات الثلاثة الرؤية والتصور والإستراتيجية مع عامل التشريك إذ لا وجود لسياسات أحادية، هناك موازين قوى داخلية وخارجية يجب أخذها بعين الاعتبار وهناك هياكل وسيطة بالبلاد يجب تشريكها لإيجاد حلول لإشكاليات البطالة والتفاوت الجهوي.

ما يحمي سيادتنا الوطنية هو مدى قدرتنا على استنباط سياسات داخلية تجمع أكثر عدد من المناصرين والداعمين لها

مسألة السيادة الوطنية في المجال الاقتصادي هي غالبا ما تكون نسبية ولا أعتقد أن بلدا في العالم له سيادة اقتصادية مطلقة هناك تداخل بين اقتصاديات الدول فالقضية هي في علاقة بمستوى هذه السيادة وقدرتنا وتمكننا من أخذ قرارات مستقلة على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى تصور سياساتنا القطاعية والوطنية. والمديونية في هذا الشأن تدخل بثقلها في تحديد هذه السيادة فنحن وصلنا الى درجة من المديونية سواء على المستوى المتعدد الاطراف من المؤسسات المالية الدولية أو كذلك على المستوى الثنائي الذي يعتبر معقدا من جهة امكانية فرضه شروطا على البلاد او تنازلات أو تموقعات معينة. نحن للأسف الشديد اوصلنا أنفسنا بل وأعطينا الامكانية لأطراف أجنبية بأن تتدخل في الشأن التونسي ومن أخطر أشكال هذا التدخل هو التدخل في صناعة القرار السياسي التونسي خاصة على مستوى التموقع الجيو- إستراتيجي ومن حسن حظنا أننا كنا دوما نتجنب مرحليا هذا الخطر لكن ما يحمينا نهائيا في اعتقادي هو قدرتنا على التصور واستنباط سياسة داخلية وتجميع أكبر عدد ممكن من المناصرين والداعمين لهذه السياسات. هناك أمثلة بالقارة الافريقية على غرار روندا التي حققت نسب نمو ورخاء مهمة منعت القوى الاجنبية من التدخل في سيادتها الوطنية لذلك أعتقد أن حماية سيادتنا الوطنية مرتبط بمدى قدرتنا على ابتكار سياسات مستقلة وترجمتها من خلال قدرتنا على تعبئة الموارد وتحقيق نسب نمو محترمة والنجاح في التوزيع الافضل لنتائج ذلك النمو.

سياسة التقشف في طرحها الحالي يمكن أن تكون شعارا خطيرا

هناك نوعان من التقشف أولا الضغط على مصاريف الدولة وهناك التقشف على مستوى الاستهلاك لمختلف الفاعلين الاقتصاديين بقدر ما هناك إمكانية للتقليص على مستوى الموارد العمومية والسياسات العامة بقدر ما هو من الصعب الحديث اليوم عن تقشف اليوم في تونس في ظل الظروف التي نعيشها حتى فيما يخص المالية العمومية يجب ان ننتبه إلى شيء وهو أن ميزانيتنا أساسا ميزانية تصرف.  ورأينا أن ميزانية التنمية في تراجع متواصل لتصبح بسيطة جدا وبالتالي لا وجود لإمكانية مزيد التقليص منها تبقى ميزانية التصرف وفي أغلبها موجهة إلى قطاعات حيوية ذات بعد اجتماعي أي التعليم الصحة والنقل

وبالتالي لا يمكن مزيد التقشف في هذه القطاعات التي تشكو بدورها عديد الصعوبات يمكن الحديث عن عملية ترشيد المصاريف على مستوى الاختيارات وعقلنتها. فمسألة التقشف في طرحها الحالي دون معرفة المقصود منها وما مجالاتها تبقى شعارا دون محتوى، لكنه شعار يمكن أن يكون خطيرا. وهذا لاحظناه مثلا فكل ما حاول النظام الحالي التقليص من الاسعار مثلا يكون ظرفيا إذ سرعان ما تعود الاسعار إلى ما كانت عليه وهذا في غياب رؤية على مستوى سياسة الاسعار التي يتدخل فيها المنتج الموزع والوسيط. هناك مواد مستوردة لا نحتاجها ونحن نلاحظ كذلك أن أسعار المواد الأولية بصدد الارتفاع بشكل جنوني زيادة على الطاقة هناك القمح مثلا الذي أرتفع بنسبة 30 % هناك تساؤلات عديدة تقتضي وجود أطراف تفكر حول هذه المسائل وتحاول أن تقوم بعمليات استباقية لأن هناك عنصرين على مستوى العمل الاقتصادي بصفة عامة وهما التحفيز والاستباق بما يمكن الفاعلين الاقتصاديين سواء الدولة أو المؤسسات أو الاسر والمواطنين من إجراءات تحفيزية سواء على المستوى الجبائي مثلا. وكذلك الاستباق لا يمكن مزيد انتظار حدوث المشاكل لنجد لها حلولا وهناك عديد الدول التي نجحت في الاستباق على مستوى التحول الرقمي والتحول الطاقي وبما يسمى بالثورة الصناعية 4.0 ومكنت اقتصاداتها من الصلابة والقدرة على تجاوز الازمات وقد بان هذا جليا خلال جائحة “كورونا” الاخيرة فهي جائحة لكنها أيضا فرصة مكنتنا من ان نتعرف على هشاشة اقتصادنا وهشاشة الخدمات العمومية. وبلغ حتى مرحلة الشك في قدرتنا من النجاة من هذه الجائحة وفي نفس الوقت كانت فرصة لنقوم بخطوات على مستوى الرقمنة والعمل عن بعد وأصبحت لدينا قناعة بضرورة أن تكون لنا سياسات عمومية وقطاعية متينة سياسات آنية لإنقاذ الاقتصاد. لكن في نفس الوقت لا نستطيع ان نتخلى عن صياغة سياسات على المستوى المتوسط والبعيد مبنية على الجوانب الاجتماعية والبيئية وللأسف تونس لم تكن ممثلة في قمة المناخ الاخير وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى وعينا وكوننا في مسار التاريخ أم خارجه خصوصا وأن كل دول العالم موجودة. لذلك أصر على وجوب أن نكون في مواقع صياغة القرارات حتى نستبق ما سيتم إقراره.

Skip to content