مقالات

تعداد 2024: قراءة في تحولات المجتمع التونسي وعدسة على الفوارق الجهوية والاجتماعية

ضياء تقتق
صحفي

أصدر المعهد الوطني للإحصاء بتاريخ 17 ماي 2025 النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024، في خطوة تُعدّ لحظة ديمغرافية وسياسية بامتياز، لما تمثله من أداة رئيسية في توجيه السياسات العمومية، وتحديد أولويات التنمية على أسس واقعية وموضوعية. فالإحصاء ليس مجرد تمشٍ تقني أو عملية رقمية باردة، بل هو أداة سيادية لقراءة حال المجتمع، واكتشاف اختلالاته البنيوية، ومتابعة تحوّلاته المتسارعة، خاصة حين تتشابك التحديات السكانية مع أوجه التفاوت بين الجهات والفئات.

تباطؤ النمو السكاني وارتفاع في نسب الشيخوخة

بيانات التعداد كشفت أن عدد سكان تونس بلغ ما يقارب 12 مليون نسمة، مع تباطؤ واضح في نسق النمو الديمغرافي، حيث لم يتجاوز معدل الزيادة السنوية 0.87% خلال العقد الأخير. هذا الرقم يعكس تغيّرات عميقة في بنية الأسرة والمجتمع، تؤشر إلى انتقال ديمغرافي يُقارب ما شهدته بلدان الشمال، حيث انخفضت معدلات الولادة، وارتفعت نسب الشيخوخة. فقد بلغت نسبة من تجاوزوا الستين سنة 16.88%، ما يضع البلاد أمام موجة عمرية جديدة تحتاج إلى سياسات اجتماعية وصحية استباقية، تواكب احتياجات جيل متقدّم في السن في ظل أنظمة تقاعد مهددة وعروض صحية متعثرة.

الفجوة الجهوية: التفاوت المستمر

لكن المثير في نتائج التعداد لا يكمن فقط في الملامح العامة، بل في الفوارق الجهوية الصارخة التي تعيد التأكيد على الطابع غير المتوازن للتنمية في تونس.

فبينما يتركز أكثر من ثلث سكان البلاد في إقليم تونس الكبرى، الذي يستقطب جزءًا مهمًا من الخدمات والبنية التحتية وفرص العمل، تعاني جهات مثل الوسط الغربي والجنوب الغربي من ضعف في التجهيزات الأساسية، ونسب تغطية منخفضة بشبكات الماء، الصرف الصحي، والغاز الطبيعي.

ففي ولايات مثل القصرين وسيدي بوزيد، لا تزال نسب الربط بالغاز دون 10%، بينما تتجاوز 60% في العاصمة وصفاقس. هذا التفاوت يعمّق الإحساس بالتهميش، ويغذّي نزوحًا داخليًا متواصلًا نحو الحواضر الكبرى، ما يؤدي إلى ضغط إضافي على المدن الساحلية واختلال في التوزيع السكاني.

التعليم: مكاسب وطنية تعترضها تحديات جهوية

أما على مستوى التعليم، فرغم تسجيل نسب تمدرس مرتفعة نسبيًا للأطفال من 6 إلى 11 سنة (قرابة 98%)، فإن التفاوت الجهوي لا يزال قائمًا، سواء من حيث جودة التعليم، أو نسب التسرّب، أو معدلات الأمية، التي ورغم تراجعها إلى 17.3% وطنيًا، تبقى مرتفعة في الولايات الداخلية، حيث تتجاوز 30% في بعض المناطق الريفية، وتُسجَّل بوضوح بين الإناث.

تحول النمط الأسري والاجتماعي

التركيبة العمرية بدورها تشير إلى ميل المجتمع نحو الشيخوخة، مع ارتفاع المتوسط العمري إلى 35.5 سنة، وتراجع في حجم الأسرة إلى 3.45 فردًا فقط، ما يدل على تغيّر جذري في نمط الحياة والعلاقات العائلية. لقد أصبح المجتمع التونسي أكثر تحضّرا وأقرب إلى النمط الأسري الصغير، لكن هذا التحوّل لم ترافقه دائمًا سياسات سكنية واجتماعية ملائمة، خاصة في المناطق التي لا تزال تعتمد في جزء كبير منها على أنماط معيشية تقليدية تفتقر إلى شبكات الحماية والدعم.

دعوة إلى عدالة جهوية وإنصاف اجتماعي

إن هذه المعطيات لا تضعنا فقط أمام صورة دقيقة للمجتمع التونسي في لحظته الراهنة، بل تفرض على صناع القرار مراجعة عميقة للمقاربات التنموية التي اتُبعت خلال العقود الماضية. فالتفاوت الجهوي، كما تكشفه لغة الأرقام، لم يعد مجرّد مسألة في التنمية بل تحوّل إلى معضلة وطنية تمسّ التماسك الاجتماعي، وتشكّل أرضية خصبة للغضب الشعبي والنزاعات الهوياتية الصامتة.

التعداد ليس رقمًا بل مسؤولية وطنية

من هذا المنطلق، لا يجب أن يُقرأ التعداد كسجل إحصائي فقط، بل كوثيقة سياسية واجتماعية، تُسائل الدولة حول خياراتها، وتُوجه الفاعلين العموميين نحو هندسة جديدة للعدالة الجهوية والاجتماعية.

إن بيانات 2024 تضعنا جميعًا، دولة ومجتمعًا مدنيًا ونقابات، أمام لحظة حقيقة: إما أن نعيد بناء السياسات على أسس إنصاف جغرافي وكرامة بشرية، أو نواصل تدوير نفس الدوائر المغلقة التي لم تنتج سوى الهشاشة واللامساواة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *