مقالات

تفتت الأطر السياسية والمدنية لا يخدم الانتقال الديمقراطي

طارق السعيدي
صحفي

شهدت تونس خلال الأشهر المنقضية حركية سياسية كبرى طبعت المشهد العام، تمثلت في وقفات لحزب النهضة ومجاميع جبهة الخلاص تقابلها وقفات لأنصار الرئيس قيس سعيد أو فلنقل جهات تصف نفسها بالقرب منه، وعلى نفس المسافة من الطرفين يقف الحزب الدستوري الحر الذي يريد رحيل جماعة القرضاوي ولا يساند قيس سعيد. كما تولدت في الآونة الأخيرة جبهة أخرى أطلقت على نفسها الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء. وعلى التخوم هناك، وقفت مكونات اليسار بتردد قاتل وحيرة بين قلب يريد التخلص من الإسلام السياسي وعقل يخشى السير نحو الاستبداد.

الجَيشَان السياسي

إن أقرب ما قد يستعمل من المصطلحات لوصف ما يحصل في تونس هو الجَيشَان السياسي فحركة الفوران والنزول السياسي، من خلال الموقف والفعل، وما تخلفه من اهتزاز دائم تجعلنا أمام حالة من الاضراب السياسي الذي يهز المشهد العام. غير أن اهتزاز المشهد العام لا يجب أن يحجب الاضطرابات الخاصة والجزئية التي تسللت إلى الأطر السياسية والمدنية. فهذا الكل المضطرب يشهد بدوره اضطراب الأجزاء المكونة للمشهد السياسي والمدني. إن الأمر المقلق في هذا الجَيشَان هو مضمون الصراع الذي لا يرتقي إلى مستوى فكري فهو في آخر التحليل مناكفات سياسية لا تتجاوز قشور الأمور مهما حاول البعض تزيينها ولإضفاء ما يمكن اضفاؤه من شرعية على الصراع وتبرير التجاذب السياسي وحشد الأنصار حوله.

 يحاول كل فريق تزيين الممارسة السياسية وموقفه من الصراع وفي الصراع بشعارات رنانة كحماية الديمقراطية ومنع الاستبداد لتقبلها شعارات من نوع حماية الديمقراطية وصون إرادة الشعب وقهر الفاسدين.

ويبدو ان طبيعة الجَيشَان السياسي الحالي، خاصة فيما يتعلق بضعف المضامين، قد جعلت الصراع والتجاذب القائم سائلا مائعا غير معلوم الحدود فلا أحد يمكنه أن يحدد بدقة ووضوح موقف أي طرف أو مكامن التقاطع ومكامن التناقض فالكل يقف تقريبا ضد الكل. ولما كان الصراع ضعيفا في المضمون سائلا من حيث الحدود مشتتا في مختلف الأوساط وموزعا على الفاعلين مبثوثا في كل ثنايا الفعل السياسي فقد ضجت به الأطر السياسية والمدنية التي بات واضحا أنها تعاني من انعكاسات التجاذب السياسي القائم.

التفتت

إن أكثر ما قد يخشى من تحول الصراع السياسي والمناكفات إلى حالة من التنافر والتناحر والغليان الذي يهدد استقرار البنى التقليدية السياسية والمدنية. إن لهذا التخوف ما يبرره بعد ما لوحظ مؤخرا من الخلافات داخل عدد من منظمات المجتمع المدني القائمة على الموقف من 25 جويلية أو من تبعات القرارات التي تصدر تباعا من رئاسة الجمهورية. فالواقع الحالي يقول إننا بصدد الذهاب نحو التفتت الناتج عن اختناق الأطر بالصراعات داخلها. إنه من المنصف ومن العلمية القول أن تفتت وتحلل البنى الأساسية للمجتمع بشكل عام وللحقل السياسي والمدني بشكل خاص قد لا يكون وليد لحظة تاريخية بل هو نتيجة منطقية لحالة السيولة التي تحدث عنها زيجمونت باومان. فهذا المجتمع الذي يخضع للحصار الاستهلاكي دون شروط الاستهلاك والذي يحث الخطى نحو الفردانية دون أن تكون للفرد شروط التشكل كهوية مستقرة يعيش حالة من السيولة التي تصيب كل أطر المجتمع كالدولة والمدرسة والعائلة والمؤسسة. وبالتالي فإنه من المنطقي إلى حد ما أن تصيب السيولة الأطر السياسية والمدنية وفي هذا الإطار فإن الجدل الذي أحدثه حراك 25 جويلية داخل المجتمع وقرارات الرئيس التي كان حافزا لتعميق الخلافات والجدل والصراع السياسي داخل الأطر وخارجها ولم يكن العامل الأساسي بل هو مجرد ظرف حرك السواكن. إن حالة الحدة والقسووية التي يشهدها الصراع في العديد من الأطر داخل الأحزاب او مكونات المجتمع المدني محيرة إلى حد ما على اعتبار أن الصراع حول الموقف من حدث سياسي مهما عظم أمره، لا يشكل في تقديري مضمونا عميقا للصراع.

الحاجة إلى الأطر السياسية

إن حالة التجاذب التي تهز أركان المؤسسات والأطر في المجتمع السياسي والمدني لا تخدم كثيرا حالة الانتقال الديمقراطي خاصة وأن بلادنا تشهد أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة وبالتالي فإنه في حاجة إلى كل الأطر تبدو ملحة جدا خاصة أن إمكانية الفوران والهيجان الشعبي تبقى قائمة في ظل حصار الأزمة السياسية والتراجع المخيف في القدرة على تأمين الحاجيات الأساسية. إن الصراع الراقي حول المضامين وحول الخيارات الكبرى يبقى مطلوبا وضروريا للتطور غير أن التجاذب السياسي الحاصل والذي انتقل إلى الأطر والمؤسسات يجب أن يتوقف الآن وأن تعتمد العقلانية في تنظيم الصراع المشروع حيث لا يبدو إلى حد الآن أن هناك بديلا عن الحوار والتحاور الوطني كإطار جامع للصراع يجنب المجتمع تفتت بناه وأطره ويحافظ على حد أدني من التماسك الضروري لمحاولات الإصلاح. وقد يكون من المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن الاتحاد العام التونسي غير مرتاح للصراع السياسي الحاصل بشكله الحالي ويعتبر أن ما يغلفه ويحيط به من فقر في المضامين وسطحية يجعله صراعا مدمرا يسير بتونس نحو التخلف ونحو اهدار الفرصة الثمينة التي لا تتكرر تاريخيا من أجل انقاذ البلاد وهو لذلك يدعو الى الحوار الوطني حيث تتصارع الرؤى والتصورات بديلا للحسابات والشعارات السياسية وحيث يكون من الممكن الخروج بتصور مشترك جامع يجعلنا نسرع إلى إنقاذ البلاد.

Skip to content