مقالات

زمن كورونا وما بعدها، تحليق فوق مشهدية من ضباب​

يسير السحيمي
متفقد عام فوق الرتب متقاعد اخصائي التامين خبير أنظمة الضمان الاجتماعي

مدخل

تناولت أعمال الخيال العلمي، مكتوبة أو سمعية بصرية أوضاعا كالتي نحيا اليوم. هاهنا فيروس يهاجم البشر والحضارة، يصيح أحد أبطال الرواية: لكي يذهب الفيروس يجب قتل الاقتصاد. تنكمش الحياة إلى حدها الأدنى، ويعصف الفيروس بالكائنات البشرية المختبئة والتي لا يربطها بالعالم الخارجي سوى وسائط الكترونية،  تتفرج من خلالها على مشاهد الدفن الجماعي المخيفة ولا تقدر بالكاد على التصفيق للصراع الملحمي،  بين ابطال رابطوا قتالا بالمستشفيات وبين الشرير القاتل

هناك في مشهد اخر من مشهديات الخيال العلمي،  تتبخر كل قاعدة للمعلومات وبخاصة منها تلك التي تهم الحسابات البنكية للافراد وللمؤسسات

في غفلة من الزمن يمسي الجميع معدما لا يملك شيئا،  عاجزا أن يبرهن أن له حسابا أو أرصدة أو وثيقة ملكية،  وللمرء تخيل استتباعات ذلك على المعاملات بل على الوجود أصلا في مشهدية أخرى تتبخر أنظمة تسيير الكرباء والاتصالات، تغرق الحياة في ظلام بهيم ويتراجع الوجود البشري الى ساحات من البدائية بل من التوحش.

قدوم كورونا أخرج هذه السيناريوهات التي نسبت وظن انها استقرت حصرا في مجال الخيال العلمي الى الواقع الملموس والمعاش والمستمر، والذي لئن حاولنا انكاره هذا اليوم فإن اليوم الذي يليه سوف يحمل اقرارا به وان انكرنا.

وكما في كل الأزمنة، يعرف الراسخون في العلم أن الممكن، ممكن الحدوث مهما تضاءلت نسب التوقع غير أن الإنكار وكذلك تكلفة الرعب الذي يخلفه توقع الأسوء، يحملان البشر إلى نوع من العمى شبيه بذلك العمى الذي يصاحبنا وينكر مرحليا حتمية الموت.

سنلتجئ في هذا المقال الى استعمال تقنية الجولة / التهويم في الكتابة والتناول، محاولة لتلمس ومسح أقصى ما أمكن من المشهد العام لقدوم هذه الجائحة ولتداعياتها على أن نخصص لموضوع بعينه في خاتمة المقال توقفا وتسليط ضوء.

وهذا الموضوع مرتبط بتخصص صاحب المقال من ناحية، كما يفرض نفسه من ناحية أخرى نظرا لأن طبيعة الجائحة وبخاصة معالجتها يستدعيه. وهذا الموضوع هو التأمينات والتأمينات الاجتماعية زمن كورونا وما بعدها.

كما أن عوامل الاستتباعات مبحث أصيل ومتعارف في الاقتصاد،  ولا احسب أن أمرا أنتج استتباعات كما فعلت هذه الجائحة. وهذه الاستتباعات ليست اقتصادية فحسب بل شملت كل نواحي الوجود، بل ومناحي الرموز والمتخيل.

حوارات

زمن الأحداث السياسية والأزمات المالية، هرع من هب ودب الى بلاتوهات التلفزيون ووسائط الاعلام والاتصال كل يفتي جازما بما ليس له به علم ولا تربطه به صفة. جائحة كورونا فرضت أمرا مختلفا، أبانت بوضوح معنى أن يتصدى لكل أمر أهله  لم تكتف كورونا بذوي الأهلية والصفة، بل أوضحت لنا مجال تدخل كل واحد من هؤلاء المختصين ذوي الصفة. فهنا طبيب مختص في الأمراض الفيروسية أو عالم بيولوجيا أحياء وتحديدا فيروسات، وهناك طبيب يتحدث في العلاج والأدوية، وغير بعيد منهم طبيب متخصص في التخدير والإنعاش  يتحدث كل هؤلاء كفريق، متكامل إنما كل في تخصصه لا تطفل لأحدهم على آخر، بل إنك لتستمع كثير المرات إلى قول لا أعلم، ذلك إن المعطيات المتوفرة لا تبيح إقرارا وجزما وعلى اختلاف مستويات المتلقين، فقد حصلت الفائدة نظرا لصفة هؤلاء المتدخلين وتمتع الناس بغياب النقاش البيزنطي والسفسطة والتعالم الكاذب والهامشية التي تدعي محورية.

أعادت كورونا تعديل الأوتار، فلا مجال في مثل هكذا بلاتوهات وحرب، أن يطل برأسه منتحل صفة خبير من المشعوذين.

حوارات أخرى

على أن هذا الصنف الأول من الحوارات ليس الأوحد، فكورونا استقدمت معها كذلك مشعوذين من نوعية وافاق أخرى ومنهم صنف بكاؤون زمن أن توجب الجلد والصبر وأصناف من طماعين نهاشين جشعين زمن ان توجب الايثار والقناعة والتضحية.

جاء مع كورونا وغصبا عنها من اكتشفوا لانفسهم مواهب في الدعوة لأشد مظاهر الليبرالية توحشا واشد مؤامرات الطمع والمساومة والانتهازية خطورة، ذلك وهو أمر بديهي فإن كورونا تتنزل داخل احداثيات مجتمعية بعينها. فكورونا لا تتنزل بذات التبعات مثلا في الهند كما تتنزل في تايوان، ولقد باحت وهي تتنزل في تونس الآن وهنا بإحداثيات بعينها. احداثيات قد تكون صدمت البعض انما كان لها قيمة كشف الغطاء. فعلى سبيل المثال ابانت انها اتاحت فرصة لكل متوحش وسمسار ومضارب ان يغرس انيابه في العظم الهش للفئات الشعبية المتضعضعة.

هذا يبغي اثراء فاحشا على حساب القوت البسيط من سميد وفارينة لمواطن منهك غلبان، وذاك يستكثر على موظف في الأرض من اصغر بقايا الشريحة المتوسطة اجره  ويدعو صراحة الى تجويعه وخطف بائس اللقمة بين يديه.

ابانت كورونا كذلك،  أن لهؤلاء الجشعين طوابير خامسة من سماسرة واعلاميين مشبوهين وسياسيين فساد ومبيضين ومسديي خدمات بمقابل. وقع تحويل وجهة نقاش مهم يتمثل في علاقة القطاع العام بالقطاع الخاص  وعلاقة القطاع الخاص بالدولة والمجتمع.

تم تحويل هذا النقاش الى مساومات وقودها ومرمى نيرانها تلك الأجور والجرايات الهزيلة ومواطن الشغل الهشة، ولم نستمع إلى علوية للمواقف المتوازنة المتزنة التي وان اقرت بوجوب مرافقة الدولة للمبادرة الحرة والقطاع الخاص فإنها لا تنسى الحديث في طبيعة هذه المرافقة ومواصفات هذا القطاع الخاص. هل هو قطاع الحيتان الجشعة التي لا تشبع، وامست خبيرة في تهريب ثروات الداخل الى الخارج. هل هو قطاع خاص تعود الإثراء دون موجب، ام هو قطاع خاص مجتهد موف بالتزاماته القانونية والمجتمعية شفاف وتنافسي. ذلك ان للدولة واجب مرافقة القطاع الخاص السليم  كرافعة لهذه المرافقة وعليها بالخصوص مسؤولية ان تدعم وترافق الباعثين الشبان رفيعي التكوين مواطني السلوك متخضري الأداء،  لا أن تكون رهينة مرتهنة لإرادات الأذرع المكسرة من سماسرة القطاع الخاص ومتنفذيه ومضاربيه ومتامريه.

ليس على الدولة مسؤولية دعم فئات طفيلية انتهازية لا تحفر لا تبات البرا، تحيا على التحيل والصفقات العمومية الريعية واللاشفافة والعمليات المشبوهة ووضعيات الاحتكار وخنق المنافسة والمبادرة المستجدة وابتلاع صناديق بأكملها وخطوط تمويل داخلية وخارجية، تتمعش من امتيازات غير مستحقة وترفع في لحظة مساومة وتهديدا شبح طرد العمال.

سميد وفارينة

كادت السيدة كورونا أن تصيح خاطيني !

وتساءلت بما لا يخلو من وجاهة ما الذي يجعل اريافا تونسية عرفت منذ ازمنة غابرة الاكتفاء الحيوي المعيشي الأدنى، بل كانت ازمنة الخصب تفيض خيرات، ما الذي يجعل هذه الأرياف تتقاتل من أجل الظفر بشكارة سميد؟ وما الذي يجعل قوتها ووجودها مرتهن بين ايدي وسيط ومحتكر ومضارب؟

هل يليق هذا المصير بأرياف وقع التضحية بها منذ العصور الغابرة حد اليوم بامتصاص فوائضها حد العظم واهمالها واخراجها من دورات التبادل المجزية؟

ارياف وقع التعامل معها كما الحلقة الأضعف وهي المزودة الأساسية للغذاء وهي خزان الايدي العاملة الرخيصة مصيرها من مصير ذلك الغذاء الذي تفتقده ازمنة الجوائح والأزمات ومن مصير تبادل لا متكافئ لصالح أشباه مدن بنيت على مراتبية هجينة ابعد ما يكون من مفاتيح المراتبية فيها الاستحقاق.

كورونا أخرجت كزلزال الى سطح الأرض واقع هذه الأرياف المرير، واقع الإنتاج النباتي والحيواني وواقع الأسعار عند الإنتاج، واقع اليد العاملة الفلاحية وبخاصة النسائية. أخرجت كزلزال الى سطح الأرض، الافتقار إلى ابسط البنى واقع الفقر والتهميش بل والتراجع عن بعض منجز على هشاشته ومنها تلك البرامج التاريخية التي عرفت ببرامج التنمية الريفية. واقع الأرياف المرير لف بكثير من الانكار والاشاحة بالوجه بل ثبت انه إقرار ضمني بالتضحية بهذه الأرياف وسكانها الذين يئسوا من قدوم التنمية فإما نزوح أو موت بطئ.

المضاربة بالسميد والفارينة لم يستهدف الأرياف فحسب بل عرفت احزمة المدن المزيفة ذات الإشكالية. نشط بارونات الاتجار بكل شيء ومنه قوت الناس وفتحت مسالك جديدة من تجارة مشبوهة ومن تخزين واحتكار وتبدت بشاعة مشهد مجتمعي هو إلى الغاب اقرب.

اقتصاد مدينة أمستردام

لم ينبثق هذا الاقتصاد الذي نسب الى هذه المدينة الهولندية من عدم،  فجذوره بعيدة في الزمن. إنما سرعت جائحة كورونا بتسليط الأضواء عليه وإعطاء دفع جديد لعنفوانه.

ولو اردنا تعريفا مبسطا لفلسفة هذا الاقتصاد  لقلنا انه اقتصاد يضع الحاجيات البشرية في محور السعي الى النمو وفي محور التنمية. وهذه الحاجيات ذات طوابق لا يهمل فيها أي مستوى من الحاجة بدء مما هو ضروري وحيوي للوجود البيولوجي وصولا الى ما كان يعتبر كماليا في أزمنة أخرى. كل ذلك في تناغم مع حاجيات وممكنات التفاعل السليم والمستدام مع البيئة والمحيط.

قالت بلدية أمستردام انها ليست معنية بنقاش قطاع عام أو قطاع خاص، فمحور الاهتمام هو الإيفاء الأمثل بحاجيات الصحة والتعليم والشغل والثقافة والترفيه والرياضة والبحث،  وتحتل الطفولة داخل كل هذا منزلة اثيرة.

العام والخاص هما أدوات تنافسية تطور باستمرار لبلوغ الوفاء الأمثل بهذه الاستحقاقات تمددا ونوعية. واعتبرت بلدية أمستردام ان جائحة كورونا فرصة ذهبية لتصحيح المنطلقات والأداء والنتائج. فلهذه الجائحة وجه من أزمة وهبوط،  كما أن لها اوجها من رافعات ورفعة رافعات تتمثل في فرص جديدة للنمو وإعادة تصويب أولويات وميكانزمات الاستثمار والاستهلاك، كما هي فرصة لإعادة تصويب أولويات إنتاج الثروات وتوزيع الاستفادة منها.

فتحت بلدية أمستردام ورشات وأقرت إجراءات تشجيع على استنباط تمويلات في مجالات كمعالجة الفواضل المنزلية وإعادة الاستعمال والتدوير كما افتتحت ورشا بحثية لمقاربات جديدة في موضوع الملك العمومي المشترك بما في ذلك فتح أبواب الاستغناء  الطوعي عن ملكيات خاصة لفائدة الملك العام المشترك، وهي فلسفة على نقيض صيرورة السعي المحموم لمزيد تكديس الملكيات الخاصة.

قالت بلدية أمستردام ان الورشة اكبر من هذه الإجراءات فهي تهدف الى إضفاء معنى انساني متطور مستحدث وجديد للعقد الاجتماعي وللعمران البشري وللتعايش السلمي الذكي مع البيئة والمحيط.

الدارس لهذه الدعوة لا يمكن ان يغفل دور الشباب في كل هذا كما دور التكنولوجيات المتطورة والذكاء المندمج الذي  رفض ان يعتبر قدرا صارما التبعية  للآلية والربحية وتبذير الموارد والمضاربة في الفقاعات المالية.

الماء الصالح للشراب / الغذاء / السكن الايكولوجي اللائق / البنية الأساسية المطورة باستمرار لمرافق الصحة / مناهج التعليم / خدمات النقل / الطاقات البديلة / منظومات الإدماج الاجتماعي المواطني / محو التمييز بين الجنسين / المشاركة المواطنية / اعلاء الثقافة وقيم الحرية وغيرها،  مسالك لدفع هذا الاقتصاد الجديد.

ليس قدرا

قد لا يكون ذا جدوى ان نردد بنوع من السطحية يتوجب منوال جديد للتنمية، غير انه ليس قدرا كذلك،  أن نحيا إلى ما لانهاية بشاعة واقع ومناويل وخيارات تخرجنا من مهلكة الى مهالك أخرى اشد قسوة.

لقد كانت الرؤية العامة وبخاصة الاقتصادية التي قادت أصحاب مقاليد الحكم عندنا هي سعي الى انخراط سلبي في العولمة،  وسيقول هؤلاء وهم مخطؤون خطاؤون أن تلك كانت اقصى الممكنات.

كانت نقطة الانطلاق لهذا المنوال هي النظر الى احتياجات العالم ومحاولة الانخراط في مسار السعي المحموم لتلبية حاجيات هذا العالم،  وهو منطق مقلوب على راسه كما سنرى. ولقد تم لنا انخراط مشوه قزمي تابع،  بني على ما اعتقد انها ميزات تفاضلية نتمتع بها في اطار هذا التقسيم العالمي للأدوار.

بينت التجربة انه انخراط مشبوه في مجمله جعل لصالح المتنفذين والمستفيدين المحليين،  والذي سيكون لهم دور كومبارس يمر لحظة دون ان ينبس بكلمة في شريط العولمة الطويل.

هذا المنوال يهمل مطلقا الحاجات الحيوية والاستراتيجية للمجتمع المحلي ولا ياخذها بعين الاعتبار كمحور ومركز لكل مجهود تنمية  وهو مشبوه كذلك لأنه ينخرط في مسار اتفه البقايا لهذا النظام المعولم،  أي المساهمة الهامشية في بعض مكونات عمليات مناولة رخيصة المكافاة زهيدة القيمة المضافة لا تتيح تقدما ولا اكتسابا للمعرفة والعلوم ولا التصاقا بحاجيات السكان والاجيال القادمة بل وتبدد موارد هذه الأجيال وترتهنها بضعف النسيج الاقتصادي وبتراكم المديونية الفخ. هو منوال بائس لا يفي بحاجيات المجتمع الدنيا ولا يتيح املا لتوثب قواه الشبابية ولا مجالا لاصلاحات تدمج المعرفة بتطبيقات عملية غايته القصوى إشباع حاجيات فئات محلية قليلة، وضمان تبعية لا مفك منها لمصائر الأوطان اسمى بعض المتخصصين هذا المنوال بمنوال تنافسية القاع او اقتصاد الثغرات.

لذلك ومع مقدم كورونا يتبدى ان البقاء بين براثن هذه المناويل ليس قدرا والمكوث بين مخالبها انتحار وموت محتوم وياس للقادم من الأجيال.

اللهج بالبديل

القناعة بضرورة البدائل امر مهم إنما غير كاف،  كما أن قدوم كورونا قد لا يغير امرا ذا قيمة في واقعنا فما استدام لعصور لا ينتهين في لحظة. ان الإقرار بان عالما جديدا امسى ضروريا هو بداية الكلام،  إنما نهاية الكلام هو التساؤل هل ان هذا العالم الجديد ممكن الإنجاز والتشكل بما حضر لدينا من قوى وفاعلين ان محليا أي وطنيا او عالميا. كما ان مبحث التفكير في من هو ذا مصلحة وطلب على عالم جديد،  هو كذلك مبحث لا يمكن القفز عليه. وان وجد هذا الطلب على عالم جديد،  ماهي حدود التمدد التي يمكن لهذا العالم الجديد المفترض ان يبلغها ؟ وماهي طبيعة التحولات داخل هذا التمدد ؟أي بعبارة أخرى ما الذي سيكون جديدا مستجدا ومختلفا داخل هذا العالم الجديد؟

انه بعض من جدل الضرورات والاماني والرغبات مع الممكنات، علما وانه جدل وليد بالكاد يطل براسه في حضرة عملاق متنفذ قديم يسعى دوما الى احباط الضرورات المستجدة واستدامة الموجود وواد الممكنات.

حين تستمع الى احد عتاة الخبراء الأجانب يصرح ان كورونا ستسرع المرور من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية الرقمية فذلك لا يعني أننا سنحيا هذه التحولات محليا ووطنيا كفاعلين،  بل كمنفعلين كما كنا سابقا وكما يتيحه منوال التنمية بل ومنوال الوجود الذي اعتمدنا وهو السباحة في قاع تركات التنافسية المهملة.

سوف تعدل الراسماليةا لراكزة من ماهيتها وأدائها، وستعدل مع ذلك ووفقا لذلك أدوار المنفعلين التابعين مع مراعاة اختلاف احجامهم النسبية طبعا داخل منوال التبعية العام.

تعديل ما بين الظرفي والمستدام

الازمات مسرع للطفرات أي للتحولات الفجئية هي مقولة متعارف عليها في عالم الأحياء الطبيعي وكذلك وبميكانزمات مختلفة، في المجال البشري الاجتماعي.

الجدل والاختلاف وارد جدا في تقييم وتقدير طبيعة الازمات التي أبانت عنها كورونا واستجلبتها. كما ان الاختلاف سيكون اكبر في تمشي ومناهج معالجة هذه الازمات. وستتمدد هذه المعالجات،  من دق طبول الحرب واستثارتها من طرف عتاة الامبريالية المترنحين،  الى الانتباه الى مسائل ذات قرب كالتزود بالغذاء،  مرورا بمراجعة أولويات النسيج الصناعي وسياسات الانفتاح والحماية. لندع جماعة طبول الحرب ولنلتصق اكثر بمتغيرات بسيطة مستجدة.

فعلى سبيل المثال سنرى ان بعض المجتمعات عرفت خلال هذه الازمة تطورا لمعاملات منتجي القرب المحليين الصغار، وقد واكبت بعض كبرى مساحات البيع هذا المتغير فتزايدت نسبة مقتنياتها وتزودها من هؤلاء المنتجين الصغار. كما سارعت أسواق الجملة بتركيز قاعدة لتزويد الخواص مباشرة بما يحتاجون واستعاضت عن قدومهم اليها بالذهاب لهم.

وليس بخاف ان هذا التكيف الظرفي على سبيل المثال قد يفتح افاقا ليتواصل الظرفي ويتحول الى مجال المستدام. موضوع العمل عن بعد واسداء الخدمات بجميع اصنافها عن بعد والتعليم عن بعد وكل ما هو عن بعد قد يتمدد ويخرج من شرنقة الظرفي الى المتواصل.

الطفرات الناتجة عن مقدم كورونا واضحة لا لبس فيها،  فموضوع كالتصرف في المخزونات الاستراتيجية ولئن كان قديما فان نوعا من الإهمال أصابه امسى اليوم امرا ذا قيمة لا تضاهيها أخرى وقد شملت الطفرة كذلك إعادة النظر السريعة في لائحة ومكونات هذا المخزون الاستراتيجي بل إعادة تعريفه من جديد.

إعادة استجلاب أجزاء هامة من النسيج الصناعي الذي فوتت فيه بعض الأمم في اطار التقسيم العالمي للإنتاج والمبادلات اضحى امرا ماثلا امامنا وستنتج عته استتباعات كبرى.

كما ان التخصص المطلق وشديد التركيز اصبح محل إعادة نظر، فالوحدات الصناعية اصبح مطلوبا منها وفي ظرف قياسي ان تتكيف مع مستلزمات منتجات جديدة،  ففي زمن تكسد فيه حركة السيارات بفعل الحجر امسى ضروريا ان تقدر وحدات انتاج السيارات على التصنيع السريع لأجهزة التنفس الاصطناعي الحيوية والتي لا تنتظر اجالا.

الخطر السبراني والذي كان يتراوح بين الخيال العلمي و الجوسسة بين كبار العالم،  اصبح خطرا يخشى قدومه تماما مثلما انبثقت كورونا. واليوم تعتبر الحماية السبرانية التي كانت سابقا محدودة نخبوية امرا حيويا وجب ان يتصل بالحياة اليومية للسكان وحماية معطياتهم ومكاسبهم

تامين تجاري وتأمينات اجتماعية

يجمع الكل ان هذا الزمن في معناه الاقتصادي والاجتماعي بل والوجودي لم يضاهيه زمن اخر نعرفه

فهذا التوقف والتعطيلات والهبوط الحاد في دورة التجارة والمال والاجتماع والإنتاج فاق ما حصل زمن الحروب الكونية،  ولم تتفوق الحروب الكونية على زمننا الحالي سوى في عدد القتلى،  ذلك ان دورة الإنتاج الكوني زمن الحروب لم تعرف هذا الهبوط بل تكيفت مع اقتصاد الحرب في أماكن وتطورت وتمددت بفعل هذه الحرب،  كما انها لم تشمل كل الاصقاع كما فعلت وفرضت كورونا. ذلك انه وكما اسلفنا فان شعار الحرب على كورونا هو وجوب قتل الاقتصاد بفعل الحجر كي ننتصر على كورونا

بينما كان شعار الحرب هو : المنتصر هو صاحب الاقتصاد الأقوى. قرر الكون كله اويكاد توقفا للنشاط وتقدم المحاربون أصحاب الميدعات البيض لمحاربة الشرير. وكورونا التي تحدت الجميع،  تحدت الإنتاج والأسواق والبورصات ودوائر المال،  افردت قطاعا بعينه بتحد اكبر

وهذا القطاع هو قطاع التامين الذي يتمثل دوره المبسط في جبر اضرار الخسائر مهما كانت طبيعتها او أسبابهاعلى انه وقف امام كورونا فاغر الفم ابلها دون سلاح.

أخرجت كورونا لسانها هازئة به مستفزة، وتبدت كونيا محدودية مقارباته و فلسفته والياته اذ هو مثيل محارب انتخب زمن عدوان لصده ولكنه تبدى عاجزا جبانا دون أسلحة.

والسبب بسيط ودون إطالة او التيه في تشعبات التخصص هو الاتي : لا يوجد كونيا أي في كل البلدان تعريف لمفهوم الكارثة الصحية وبالتالي لا وجود لانظمة من التامين ومقاربات من القانون تتعلق بالكارثة الصحية وبطبيعة الحال ستكون المعالجة لهذا الامر من زاوية التامين منعدمة بما ان الخطر لا تعريف له

أنظمة التامين وإعادة التامين تعرف من زمن مفهوم ومعالجة الكارثة الطبيعية ومنها الفيضانات والزلازل والانزلاقات الأرضية والجفاف المتواصل والأعاصير العاتية وغيرها. كما ان مجال تامين هذه الكارثة الطبيعية وإعادة تأمينها معلومة داخل دوائر التامين التجاري والصناديق الخصوصية والالتزمات الملقاة على كاهل الدولة.

الكارثة الصحية او الجائحة امر معلوم لدى الدوائر الصحية العالمية،  إنما كان يحضى بإنكار لا يمكن أن يستمر في دوائر أخرى ومن هذه الدوائر مجال التامين وإعادة التامين.

صحيح ان امر المعالجة للكارثة الصحية وفق اليات التامين وإعادة التامين الكلاسيكية امر صعب وهو ما يستدعي أدوات معرفية وبحثية جديدة وكذلك اليات للتصدي الأمثل لهذا الامر. فكما هو معلوم فان تقنيات التامين تستند إلى قانون الإعداد الكبرى،  وكذلك إلى التضامن في توزيع المخاطر.

فعلى سبيل المثال لو اخذنا التامين على المرض مثالا،  يتم هذا التضامن وتوزيع المخاطر بين سلسلة من الاصحاء و سلسلة أخرى من المرضى في فترة زمنية ما، تماما كما يتم جبر الاضرار بين سلسلة من المكتسبات السليمة والمكتسبات المتضررة. انما ما العمل حين يصبح الكوكب كله متضررا،  والقطاعات كلها متضررة والبشر كلهم ضحايا؟ وهل تتيح تقنيات إعادة التامين صلابة وحياة لنظام تامين سوف يطلب منه ان يبادر بجبر اضرار الجميع عما لحقهم زمن الجائحة الصحية؟

لا يعني ذلك ان الحلول مستحيلة فلئن كان التضامن الافقي غير ممكن زمن الكارثة الصحية لان الجميع متضرر،فان التضامن العمودي أي الزمني بين سنوات طويلة لا تحل فيها الكارثة وسنة كسيحة ضحية ممكن، كما ان الاستئناس بتجربة الكارثة الطبيعية حيث يقوم نظام عام عمومي بدور الحد الأدنى،  وحيث تبني مؤسسات التامين وإعادة التامين التجارية فوق هذا النظام العام ما شاءت من طوابق،  في علاقة برغبات المؤمنين لديها.، على كل ودون ان نغرق في تفاصيل وتقنيات نقول ان اكبر الورشات في علاقة بكورونا ستستهدف قطاع التأمينات وستستدعى للغرض بحوثا جديدة،  في مجال الرياضيات والتمويل وفي القانون المطبق على الجوائح.

وعلى سبيل المثال فقد قدمت مشاريع قوانين في عديد البلدان المتقدمة،  تسعى الى اعتراف الدولة بالكارثة الصحية،  وتدعوها الى تعريفها والى ضبط الالتزامات المحمولة عليها،  كما دعت فيدراليات كثيرة لشركات التامين التجارية  منخرطيها الى التفكير بجدية في إيلاء موضوع الكارثة الصحية عناية نظرا للأفاق الواعدة التي يمنحها لتطوير قطاع التامين وهي دعوات من زمن كورونا التي لم تأت فقط بالانتكاس،  وإنما مثلت فرصة للتجديد والتوثب لكثير من القطاعات التي ظنت انها استوفت اكتمالها.

كما وضعت المؤسسة الاقتصادية أمام تحديات جديدة، فلئن كانت المؤسسة مؤمنة ضد خسائر الاستغلال بما فيها تلك الناتجة عن الكوارث الطبيعية،  فان الكارثة الصحية او الجائحة كانت في حساب العدم الذي لا ينكر فقط قدومه،  بل لا جواب للحد من تداعياته وبخاصة في علاقة بالتامين، على ان تحد اكبر وتساؤلات عظمى سوف تنفجر في وجه مؤسسات التامين الاجتماعي او الضمان الاجتماعي فتأثير الكارثة الصحية على أنظمة التامين على المرض واضح،  رغم أن مجالاتهما وان كانت متجاورة فإنها لا تتماهى فأي تأثير لهذه الكوارث الصحية المستجدة على أنظمة الضمان الاجتماعي؟

ورغم سهوله الإقرار بإجابة، فتأثير هذه الجائحة كارثي،  نظرا للهبوط الاقتصادي الحاد،  خاصة أن تواصل، ونظرا كذلك لانتظارات المضمونين بل وانتظارات الدولة ذاتها من هذه الأنظمة، التي كانت تشكو بدورها عللا هيكلية قبل مقدم كورونا، غير ان ذلك مبحث طويل،  نكتفي بالإشارة إليه هنا.

وحسبنا الاجتهاد

Skip to content