مقالات

سعيد بين مطرقة الانتظارات وسندان الضغوط

خليفة شوشان،
صحفي.
لست متشائما ولم أكن يوما كذلك، بل لعلّي دفعت غالبا ضريبة التفاؤل المبالغ فيه، فتعلمت أن أميل بذهني الى “التشاؤل” كلما ضاقت الاحتمالات وكان الغموض سيّد الموقف.
 
* تدابير 25 جويلية ترجمة سياسية لقرارات شعبية
استقبلت مثل غالبية الشعب التونسي إعلان 25 جويلية الرئاسي بكل ما تقتضيه الروح الوطنية من وفاء لانتظارات الشعب المحبطة وغضبه المكتوم وحدسه الذي لا يخيب في أن حالة “التأكسد السياسي الخانق” والتأزم المزمن الذي وصلته البلاد يجب ألا تستمرّ وأن الاجراءات والتدابير الاستثنائية الرئاسية كان يجب أن تتم لإنهاء حالة العبث التي بلغتها البلاد المشرعة أبوابها على كلّ احتمالات الفوضى. كانت القرارات الرئاسية إذا ومن منظور متخارج عن حسابات الربح والخسارة السياسية متماهية مع القرارات الشّعبية التي كتبت في الشّوارع واتخذت لها أكثر الأشكال قصوويّة، وكان من الممكن أن تتطوّر إلى حالة تمرّد شعبيّ كاسحة وغير مسبوقة تكثّفت في النقمة على كل ما يرمز الى حركة النهضة ورئيسها وترجمت استهدافا لمقراتها الحزبية والمطالبة بحلّ المؤسسات السيادية المحسوبة عليها البرلمانية منها والحكومية وكان من الممكن أن تتمدّد ألسنة النقمة الشعبية الجارفة الى بقية الأحزاب والى كل ما يحيل إلى ذاكرة السنوات العشر من الانتقال الديمقراطي. لذلك فقناعتي لا تزال راسخة أن ما أقدم عليه رئيس الجمهورية وبقطع النظر عن النوايا كان ترجمة سياسية وقانونية بما يحتمله الدستور للارادة الشعبية وكسر لحلقة “توازن الضعف” داخل الدولة وغياب أي أفق لاستمرارها جهازا لإدارة المصالح المشتركة بين التّونسيين بعد أن استحالت إلى أداة لحماية مصالح الأقلية المتنفّذة الاقتصادية والسّياسيّة والحزبية والبرلمانية على حساب عموم أبناء الشعب.
 
* فتنة التوصيف الدستورية وأحقية المحاذير الحقوقية
لن أخوض في وحلّ التّوصيفات القانونية والدستورية لما حدث ولن أشغل نفسي بهذا الجدل الذي طالما شكّل أحد عناوين الأزمة الأبرز الذي أوصلنا إلى تلك اللحظة، ولعل الجميع يعلم ولكنه ينكر أو يتجاهل أن الأزمة في جوهرها سياسيّة وأن التّحجّج بالنصوص القانونية ورفع الدستور على ألسنة أساتذة القانون الدستوري مجرد توسل ماكر لتبرير المواقف والتّمترسات السّياسيّة، بل لعلّ أكثر المراهنين على “فتنة التأويل الدستوري” حركة النّهضة وحلفاؤها ومن صعدوا أعلى شجرة الإنكار وأعلنوا أن ما تمّ “انقلابا” كانوا أوّل المتراجعين والنّازلين عن مواقفهم نحو التعامل مع الأمر الواقع السياسي والتخفيف من شحنة التوصيف بالانقلاب إلى الحديث عن “كسر الحلقة المغلقة السياسيّة والدستورية” وعن “محاولة الانقلاب” وأخيرا عن “الفرصة لإنقاذ المسار الديمقراطي وتصحيحه”. لكن وبعيدا عن جوقة المبرّرين الذي انتصبوا كعهدهم عصافير نادرة تزقزق على هوى الشيخ وحركته وهاموا على شبكات التواصل الاجتماعي وفي المنابر يغردون حزنا على ضياع الديمقراطية وعن غول الدكتاتورية الزاحف قبل أن يكتشفوا أن “قائد الأوركسترا النّهضاوي” و”شيخهم التكتاك” قد نزل عن الشّجرة وغيّر نوتة العزف السياسي. من الضروري الانتباه الى جملة الهواجس والتخوّفات التي عبّرت عنها عديد الأصوات الحقوقية والدّيمقراطية الحقيقية الجادة والمشهود لها بالنّزاهة واعتبارها بمثابة المحرار الذي يؤشر إلى نسبة المخاطر التي قد تعصف بالمكتسبات الحقوقيّة والدّيمقراطية، والحذر والتنبه لموجات الشّعبوية والغوغائيّة التي تستهدفها بالشّيطنة والتّشويه سواء عن جهل أو عن قصد وسابقيّة إضمار وتخطيط لإشاعة حالة من الخوف والرّعب تكون مقدّمتها للعودة لمناخات ما قبل 14 جانفي 2011.
 
* جرءة التأويل وارتباك التنزيل
بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على الإعلان الرّئاسي وبعد فسحة الأمل والتّفاؤل التي أشاعتها بين أغلب التونسيين لا تزال الأوضاع تراوح مكانها والمدى أكثر غموضا رغم جرءة التأويل الرئاسي وكلّ النّوايا الطّيّبة والصادقة الذي يمكن لمسها في تصريحات الرئيس الماسك بجمر السّلطة، ورغم كلّ الإشارات الإيجابية خاصة المتعلّق منها بملفّ التّصدّي لجائحة كورونا والشروع في فتح ملفي التحصن بالافلات من العقاب ومنظومة الفساد التي تنخر البلاد. لكن يبقى يقيني أن كل ما وقع منذ 25 جويلية إلى اليوم يبقى مجرّد نزع للألغام وتهيئة لميدان المعركة الحاسمة قبل انطلاق المواجهة الحقيقيّة مع منظومة الفساد والإفساد التي تمثل التجسيد الفعلي “للخطر الداهم” الذي استدعى قرارات 25 جويلية والرغبة الشعبية في تنزيلها وتفعيلها على أرض الواقع.
 
* قلق مشروع وضغوط متعاظمة
في تصريحه الأخير وبمناسبة لقائه السيّد محمّد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية والسيّدة سهام البوغديري نمصية المكلفة بتسيير وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار بدا رئيس الجمهورية على خلاف تصريحاته السابقة منذ 25 جويلية مرهقا وغاضبا ومنزعجا وفي وضع دفاعي في علاقة بجملة من القضايا الرئيسية التي تشغل الرأي العام، الحملة الإعلامية الداخلية والخارجية وتوصيف ما وقع بالانقلاب، بطء الأداء القضائي في تناول عديد ملفات الفساد، تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي وانهيار المالية العمومية. ولعل الجامع والمسكوت عنه في هذه الملفات اعتراف الرئيس الضمني بحجم الضغوط التي تمارس عليه ومحاولات التأثير على قراراته سواء من جهات متنفذة داخلية أو خارجية.
 
* القضاء المرتهن أكبر العوائق أمام سعيّد
تبقى أهمّ العقبات التي تقف حائلا اليوم بين سعيد وتحقيق ما وعد به من تطهير البلاد وتفكيك منظومة الفساد القضاء الذي أكدت كل التجارب المقارنة القريبة والبعيدة أنه يبقى أمضى الأسلحة الاستراتيجية في الحرب على الفساد، لكنها في تونس أثبتت عجزها وارتهانها في جزء كبير منها إلى منظومة الفساد الحاكمة والمتحكمة منذ عقود في البلاد، بل وتواطؤها وتحولها إلى إحدى أدواتها وأذرعها الأقوى والأمضى في فرض هيمنتها وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب. لذلك فعركة استقلالية القضاء وتطهيره من جيوب الفساد وتحرير “كولواراته” المختطفة من مراكز القوى تبدو أم المعارك في الأيام القادمة، لكن وبالرغم مما حملته قرارات مجلس القضاء العدلي المتعلقة بملفي القاضيين البشير العكرمي والطيب راشد من ٱمال مبشرة بانطلاق ماكينة التطهير الذاتي القضائية فإن خيبة الأمل التي رافقت الحركة القضائية الأخيرة التي أعلن عنها المجلس الأعلى للقضاء لم تترك مجالا للشك أنّ حجم اختراق المنظومة الجهنمية للقضاء أبعد من أن يعالج ذاتيا.
 
* المافيات تمرّ من الدفاع إلى الهجوم
إن معركة تحرير القضاء ستبقى المقدمة الضرورية للمضيّ قُدما في المعركة الحاسمة ضدّ “منظومة الفساد” المتشعّبة وحراسها من مافيات الريع الاقتصادي والمالي وأدواتها السياسيّة والاعلامية الراسخة والتي استوعبت صدمة وزلزال القرارات الأخيرة بعد مسايرتها كعادتها مع الانتفاضات الشعبية، وتسعى اليوم إلى اختراقه وتوظيفه من خلال إعادة الانتشار وترتيب دفاعاتها وذخر أسلحتها الاقتصادية والمالية والإعلامية، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأنها مرت أخيرا إلى الهجوم من كل الجبهات الداخلية والخارجية ولكل الأسلحة للإجهاز عليه واختزاله في التخلص من واجهتها النهضاوية في انتظار نضوج شروط تغييرها بواجهة أخرى جديدة أكثر مقبولية في استنساخ لتجاربها السابقة. قبل الانتهاء إلى خنق روح 25 جويلية كما أطفأت سابقا جذوة 17 ديسمبر 14 جانفي.
 
* إنعطافة نحو القوى الوطنية التقدمية باتت أكثر من ضرورية
في معمعان هذه اللحظة التاريخيّة الفارقة يقف سعيّد وحيدا في عزّ العاصفة في صورة هي الأقرب إلى بطل الأساطير “سيزيف المتمرد” الشقيّ بين مطرقة الانتظارات الشعبيّة وسندان الضغوط الحقوقية والدستورية وكماشة المافيات الاقتصاديّة والمالية والسياسية. الثقة الشعبية غير المسبوقة في سعيد تشكل مشروعية مهمّة ورصيد سياسية وازن ولكن التجارب علمتنا أنها ليست حاسمة في كل المعارك وخاصة منها المعقدة وشديدة التكثيف كالتي تعيشها تونس اليوم. المطلوب إذا من سعيد لردم هذه الهوة بين الانتظارات والممكنات القيام بانعطافة سياسية باتت أكثر من ملحة نحو الاحتياطي السياسي والمدني من القوى التقدمية والديمقراطية والمنظمات الوطنية لتجسير المسافة الفاصلة بين الإرادة السياسيّة الرئاسية والتطلعات الشعبية وبالأخصّ بتشكيل كتلة تاريخية وطنية وازنة تقطع الطريق أمام كل المتسلّلين والراكبين على قرارات 25 جويلية.
Skip to content