أخبار مدنية

ظل الرئيس 

فطين حفصية
صحفي

حين تضاعفت موجة الحر الصيفي في البلاد عرفت الحرارة  السياسية  أشد درجاتها  في أسبوعين متلاحقين فعند انتصاف شهر جويلية القى رئيس الحكومة الياس الفخفاخ باستقالته بعد الكشف عن شبهات تضارب في المصالح وبانتهاءه وقف رئيس البرلمان راشد الغنوشي أمام اشد الامتحانات السياسية وهي النظر في لائحة سحب الثقة منه لأعلى منصب نيابي.

ولما كان الجو السياسي العام ساخنا فإن قيظا اقتصاديا واجتماعيا بلغ مداه (عاطلون معتصمون ودورة انتاج معطلة في الفسفاط والمجمع الكيمياوي وأزمة الكامور الطاقية تراوح مكانها ونشاط اقتصادي مترنح تحت وقع الجائحة العالمية ومراكب هجرة غير نظامية يركبها شبان تونسيون نحو الضفة المتوسطية الاخرى)… كل ذلك جعل السياق العام للوضع استثنائيا ومركبا في الحكومة والبرلمان..

انتهت الأمور الى ما آلت اليه وبات ظل رئيس الجمهورية يلاحق السلطتين : فبالنسبة الى القصبة عادت مفاتيح المبادرة بيديه مرة أخرى بتكليف الشخصية الأقدر والذهاب الى حكومة الرئيس اثنين رغم المحاولة الالتفافية اليائسة لحركة النهضة في الوقت الضائع عند استقالة الفخفاخ، وفي باردو كلما زاد منسوب العراك والخصام السياسي والشلل التشريعي في البرلمان خصوصا أمام الاستحقاقات الدستورية الكبرى (المحكمة الدستورية) أو مشاريع القوانين المستعجلة الملقاة

 على الرفوف كان الرئيس قيس سعيد من الرابحين في عداد النقاط المسجلة سياسيا والتوجه الشعبي العام الذي تثبته استطلاعات الرأي.

إن ظل الرئيس يبدو قادرا على التمدد أكثر حكوميا وبرلمانيا إذا استمر الرسم السياسي على حاله فحين تزداد الهوة اتساعا بين الأحزاب والمكونات السياسية ويمر الوقت دون نتيجة تصبح المنصات الجاهزة لإطلاق الصواريخ التي تحدث عنها رهينة لمسة زر منه ويقع أبغض الحلال الدستوري وهو حل البرلمان.

“اللاسلم” البرلماني يهدد الاستقرار الحكومي

لم يكن التعايش القسري في الفضاء التشريعي جديدا فمنذ الجلسة العاصفة التي نال فيها رئيسه راشد الغنوشي الثقة بمائة وثلاثة وعشرين صوتا فقط أصبحت الجلسات العامة وبعض اجتماعات اللجان أشبه بحلبات التصفية السياسية بين الخصوم بدل تحديد الأولويات التشريعية لكن الجديد هو اقتراب تحول ضوابط العمل البرلماني من هذا التعايش القسري  إلى الاحتراب الطوعي.

وقد انعكست الجغرافيا السياسية للبرلمان على الاستقرار الحكومي فمنذ انتهاء مهمة حكومة الشاهد بعد تمديد وقتها اضطراريا سقطت حكومتان (الحبيب الجملي والفخفاخ) مع مراعاة فوارق الظرف والأسباب ما يجعل من الحكومة الثالثة المرتقبة بقيادة هشام المشيشي حكومة الفرصة الأخيرة أمام الجميع فمن بين علامات استقرار الدول استقرار حكوماتها.

إن هذا العنوان الكبير “حكومة الفرصة الاخيرة” في العهدة النيابية التي مازالت لم تغلق عامها الأول له جملة أسباب فاذا نظرنا الى لائحة سحب الثقة عبر وجهي العملة لوجدنا أنه لا رابح ولا خاسر بين “المعسكرين المتضادين” رغم سقوطها في سباق التصويت والتقاط الغنوشي وحركة النهضة لأنفاسهما  مقابل اجتماع المعسكرين على افقاد ما تبقى للبرلمان من رمزية مؤسساتية وخسارة ما تبقى لهما من أوراق مناورة وعندها يصبح نقل المعركة البرلمانية الى ساحة المشاورات الحكومية من قبل أي معسكر  لرفع سقف شروط التفاوض ضربا من ضروب الانتحار السياسي.

الغنوشي يجلس على كرسي هزاز 

لو دققنا ايضا حسابيا سنجد أن الغنوشي تمكن من المحافظة على كرسيه قانونيا (97 فقط صوتوا لصالح سحب الثقة  من 109 مطلوبة)  لكن الحساب نفسه يخبرنا انه يجلس على كرسي هزاز لطبيعة تحالفه الهش برلمانيا مع قلب تونس الذي ظل للمرة الثالثة قوة عددية محددة لنتائج المعارك السياسية

 المفصلية منذ انتخابات 2019  (الاطاحة بحكومة الجملي – تمرير الغنوشي لرئاسة البرلمان ثم انقاذه من سحب الثقة)  اذ عند فقدانه لسند هذا الحزب “غير المضمون” يصبح كرسي الرئاسة بدوره غير مضمون.

واذا راقبنا بداية التململ داخل حزب قلب تونس اثر الاعلان عن نتائج الجلسة وقابلية تشظيه عند تسجيل استقالات رغم تأكيد رئيسه على مسكه بكل خيوط اللعبة في الاختبارات السياسية المهمة فإن ما حصل في بعض المرات لا يمكن أن يتحول الى قاعدة في سوق السياسة المتحولة ما سيجعل من معادلة  الكرسي الهزاز  أكثر من منطقية فهذا الكرسي يجعلك تتحرك دائما لكنه لن يوصلك الى أي مكان.

إن من تداعيات الجلسة البرلمانية الساخنة هو استكمال حالة الانقسام الواضحة فالأحزاب والائتلافات خاضت صراعات استنزاف برلمانية وحكومية وإعلامية جعلتها تدخل مرحلة الانهاك السياسي وتقترب من استنفاذ ما يطلق عليه الرئيس قيس سعيد ثنائية الشرعية والمشروعية وهنا  سيكون ظله موجودا  مرة أخرى في أي معركة كسر عظام جديدة بين الافرازين البرلمانيين لما بعد الثلاثين من جويلية.

مشاورات الحكومة على وقع استتباعات جلسة سحب الثقة 

إن اهتزاز الثقة بين مختلف القوى السياسية في البلاد وتداعيات هذه الجلسة لها استتباعاتها المؤكدة على المشاورات السياسية المرتقبة لرئيس الحكومة المكلف فهو وإن سيراعي مبدأ تلازم المسارين البرلماني مع الحكومي بالضرورة الا أنه سيكون مسنودا أكثر بـ” ظل الرئيس ” مقارنة بظرفية سابقه الياس الفخفاخ وعبر هذا السند سيحدد خط المشاورات ونسق سيرها وما ردود الفعل الحزبية الأولى حول شخصه وخصوصا من النهضة إلا تأكيد أن سياسة العصا والجزرة التي اتقنتها الحركة جيدا مع كل الحكومات السابقة لن تجدي هذه المرة في ظل التوازنات الجديدة بل إن المعادلة التي أقامت عليها الحركة وجودها في حكومتي يوسف الشاهد والياس الفخفاخ وهي “أحكم كي اعارض” انتفت كل ظروف وجودها.

وعلى عكس الفخفاخ الذي عول خلال مشاوراته على ايجاد “حزام سياسي واسع” يجمع سرديات متناقضة (اسلاميون وقوميون وشق محسوب على الدستوريين والتجمعيين وآخر على الخط الثوري ممثلا في التيار) فإن المشيشي يبدو أمام طريق سالكة هذه المرة لفرض كل شروطه وبسطها منذ البداية على طاولة الأحزاب فإذا اتجهت نحو إسقاط حكومته  فإنها ستكون كمن يلقي بنفسه الى التهلكة السياسية عند الذهاب الى انتخابات مبكرة  فلا انتخابات أمس هي انتخابات اليوم ولا ناخب الماضي هو ناخب الحاضر.

إن  جلسة سحب الثقة  مثلت تمرينا ديمقراطيا مهما كشف خارطة الأطراف المؤيدة والمعارضة ومن تقف في منطقة رمادية ورسم جيدا طبيعة التناقضات صلب البرلمان التي انعكست على أداء جل الحكومات، لكن وقائع ما بعدها تقول إن تبادل  اطلاق النار السياسي لن يهدأ وأن الازمة التي غلفتها العطلة البرلمانية  بهدنة مؤقتة قد تسمح بالتوجه نحو الأسئلة الجوهرية المتصلة بجبل المشاكل التي تمر بها البلاد .

Skip to content