مقالات

عن الكرنفال: “اعلموا أن حبسكم لا طاقة له على احتواء حرية التفكير!”

خولة السليتي
صحفية

“كل ما في الأمر أنكم تتحملون اليوم مسؤولية مصيرنا الحاضر، أنه في استطاعتكم أن ترموا بنا في الحبس إن بدا لكم ذلك على الخاطر…إنما اعلموا أن حبسكم لا طاقة له على احتواء حرية التفكير وأنكم إن قدرتم على اعتقالنا فلن تستطيعوا أبدا اعتقال المستقبل والمصير” ، هكذا كتب المرحوم محمد ڤلبي في “حربوشة…الكرنفال” .

 “الكرنفال”  الذي استشهد به رئيس الجمهورية سويعات قبل تنظيم الاتحاد العام التونسي للشغل تجمع 04 مارس الجاري ببطحاء محمد علي، قائلا: “ولينظروا إن شاؤوا إلى ما كان يكتبه المرحوم محمد قلبي في جريدة الشعب تحت عنوان “حربوشة” “الكرنفال”.. وتونس ليست كرنفال”. دعوة رئاسية غير رسمية، دفعتني إلى التوجه مسرعة نحو مكتبتي والبحث عن “حربوشة”  ڤلبي ، تصفحت ورقات “الحربوشة” أو الكتاب وقرأت “الكرنفال” من جديد.

يتوجه كاتب مقال “الكرنفال” الذي نشر بتاريخ 13 جانفي 1978 بجريدة الشعب، بنقد لاذع لمن هم في السلطة ويتحدث عن مشاركة البعض منهم في التضليل وكيف أن الشعب بات لا يصدق كلمة واحدة من كلام بعض المسؤولين  ليؤكد في آخره وهو يخاطب السلطة أن “في استطاعتكم أن ترموا بنا في الحبس .. لكن اعلموا أن لا طاقة له على احتواء حرية التفكير”.

عبارات كانت كافية لتعيد إلى ذهني صور الشباب المهدد في حريته، الشباب الذي ما أن يمارس حقه في التعبير أو التفكير حتى يجد نفسه مهددا بتهمة “الاعتداء على موظف عمومي”.

وسام الصغير، بثينة الخليفي وأسامة غلام ثلاثة شباب اختاروا أن يحتجوا ضد إيقاف عصام الشابي رئيس حزبهم “الجمهوري” عبر كتابة على الجدران “تاغ” يطالبون من خلالها بـ “الحرية لعصام الشابي”، ولكن وجدوا أنفسهم محالين على القضاء بتهمة “الإضرار بملك الغير العمومي وهضم جانب موظف عمومي”. وقد تمت إحالتهم بحالة سراح على أنظار المجلس الجناحي لمحاكمتهم.

حادثة سبقتها إحالة الناشط السياسي وائل نوار على التحقيق كمتهم في ثمانية قضايا مختلفة تتعلق كلها بمسيرة 18 جويلية 2022 الرافضة للاستفتاء. وأفاد نوار، عبر تدوينة له على الفايسبوك،  أن التهم الموجهة له تتلخص في “هضم جانب موظف عمومي” ادعى من خلالها 6 أعوان أمن بكونه اعتدى عليهم بالعنف المادي والمعنوي وقضية أخرى ضده بعنوان عدم الالتزام بقرار والي تونس القاضي بعدم التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة.

وكشف التحقيق مع وائل نوار وجود شكاوي أخرى مرفوعة ضد كل من نقيب الصحفيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع باردو خليل الزغيدي ومجموعة من نشطاء المجتمع المدني، والتهمة أيضا “هضم جانب موظف عمومي وتعطيل حركة الجولان” خلال وقفة 18 جويلية 2022 امام المسرح البلدي بالعاصمة الرافضة للاستفتاء، حسبما أعلنه نقيب الصحفيين.

تضييقات دفعت بمجموعة من نشطاء المجتمع المدني والشباب إلى التحرك آنيا والتنديد بما اعتبروه استهدافا لهم ولحريتهم وتوجها نحو هرسلة الحراك الشبابي، ليؤكدوا في المقابل أن المسيرة متواصلة وأنهم لا يخشون الحبس وأنهم قادرون على مواصلة التعبير وأنه لا طاقة لأي أحد أو أي كان احتواء حريتهم في التفكير حتى بالمرسوم 54.

سلاح السلطة للجم ألسنة المعارضة

لقد تمت إحالة عدد من المدونين والحقوقيين والصحفيين بمقتضى احكام المرسوم 54 الذي يعتبر زجريا بالأساس، حتى أنه صنّف “سلاح السلطة للجم الألسنة المعارضة ” خاصة أنه ينص على عقوبات سالبة للحرية وقد تضاعف عندما يكون “المستهدف” موظفا عموميا أو شبهه

وهنا لا بد من الإشارة، أنه وفقا للمعايير الدولية المتعلقة بالحريات خاصة حرية التعبير، تكون العقوبات  أقل حدّة أو شدّة عندما يكون المستهدف موظفا عموميا، وهي ليست وضعية الحال بالنسبة إلى تونس أو مع المرسوم 54 الذي وصفته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بكونه “فصلا جديدا من فصول التضييق على حرية التعبير التي تعتبر أبرز مكاسب الثورة”.

لقد نسي أو تناسى من يتحملون اليوم مسؤولية مصيرنا الحاضر أنه سيكون هنا بيننا دائما شباب تائق للحرية قادر على حمل المشعل لتحقيق حلم الديمقراطية الذي لا ينتهي بتفعيل المرسوم 54 أو تطبيق فصل المجلة الجزائية المتعلق بـهضم جانب موظف عمومي بهدف التخويف أو “هضم” الحريات.

وينص الفصل 125 من المجلة الجزائية على أنه “يعاقب بالسجن مدة عام وبخطية مالية قدرها 120 دينارا كل من يهضم جانب موظف عمومي أو شبهه بالقول أو الإشارة أو التهديد حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرتها”. وهو فصل يعتبر فضفاضا لما يتضمنه من عبارات أو مضمون فضفاض مما يؤدي وجوبا إلى استسهال توجيه التهمة ويكون بذلك سيفا مسلطا على الحريات.

إن سلطة دولتنا الموقرة حريصة أشد الحرص على صون صورتها وصورة “موظفيها”، لكن ماذا عن صون “مواطنيها” لما تحمله كلمة “مواطن” من معاني؟ ماذا عن صون كرامة المواطن وضمان حقوقه، حتى وإن أخطا في حق الدولة نفسها؟  فصورة الدولة من صورة مواطنيها أيضا.

أنيس الكعبي كاتب عام النقابة الخصوصية لأعوان شركة تونس للطرقات السيارة لا يزال إلى اليوم رهن الإيقاف على خلفية نشاطه النقابي. لقد سعى أنيس إلى ممارسة حقه النقابي المكفول دستوريا لحماية حقوقه وحقوق منظوريه، لكن الحبس كان مصيره. ولعلّ الأخطر من ذلك أن توجه مراسلة من تونس للطرقات السيارة إلى أنيس الكعبي تعلمه فيها بـ “معاينة تغيبه وفي صورة عدم التحاقه بمركز العمل يعتبر في حالة غياب غير شرعي”، بالتالي يعتبر متخلّ عن عمله وعن كل حقوقه. ولمن لا يدري، الكعبي موجود في السجن بشكوى من إدارة مؤسسته، ما حال دون التحاقه بعمله. إنها فعلا لمهزلة حقيقية !

ومن المؤسف اليوم أيضا أن 43 معلما من سيدي بوزيد مهددون بنفس مصير الكعبي على خلفية إحالتهم على التحقيق بتعليمات من النيابة العمومية لمجرد مشاركتهم في وقفة احتجاجية تنديدا باعتداء مواطن على زميلتهم، وذلك بتأكيد من كاتب عام الفرع الجامعي للتعليم الأساسي في سيدي بوزيد. لقد أصبح العمل النقابي اليوم مهددا بالسجن وبات الرأي المعارض للسلطة مهددا أيضا بنفس المصير.

نحن نطالب دائما بضرورة المحاسبة ونؤكد أنه لا نتسامح مع من تاجر بالدم وتورط في الاغتيالات واستشهاد أمنيين وعسكريين وتورط في شبكات التسفير نحو بؤر التوتر، نحن مع المحاسبة بعيدا عن منطق التشفي والتوظيف، نحن مع المحاسبة في إطار دولة القانون. ودولة القانون والحقوق لا تنصّ على محاكمة متهم مرتين، وهو ما لم يحدث مع المحامي سيف الدين مخلوف المتهم فيما يعرف بقضية امن المطار والذي حوكم مرتين: مرة أمام القضاء المدني وأخرى أمام القضاء العسكري.

  كما لا نريد في دولة القانون التي طالما حلمنا بها أن يتم العودة إلى فترة ما قبل الثورة عبر “تلفيق” تهمة “التآمر على أمن الدولة”  ضد معارضي السلطة بغاية حبسهم وإسكات صوتهم و”إيقافهم” عن التفكير.

 نحن نتفق مع رئيس الجمهورية عندما قال “تونس ليست ضيعة أو بستانا، ولا كرنفالا”، ولا نريدها أن تكون كذلك، لا نريدها أن تكون فرجة أو عرضا للآخر خاصة العدو قبل الصديق. نحن نريدها فقط أن تكون دولة قوية عادلة وبقوة القانون الذي ينصف الضعيف قبل القوي. نريدها دولة تصون كرامة مواطنيها وتضمن حقوقهم وعلى رأسها الحق في التعبير والتظاهر ولا تكون “حبسا” يتم فيها احتواء حرية التفكير. ومع ذلك، فإن المؤكد أنه “لا  يستطيع أحد مهما فعل احتواء حرية التفكير أو أن يعتقل المستقبل والمصير”، فعلا صدق “كرنفال” محمد قلبي!

Skip to content