مقالات

في الرومنطيقية السياسية

فطين حفصية
صحفي

تسارعت الأحداث في البلاد على مدار الساعة لتقطع على التونسيين فاصل الوحدة الوطنية الكروية إثر تأهل المنتخب إلى مونديال قطر وفسحة قدوم شهر رمضان: تم حل البرلمان المجمد وتوجيه “تهم ثقيلة”  لعدد من أعضاءه بعد إقرار اجتماعهم الافتراضي إنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية ونقل ساحة المعركة رسميا من محاولات الجر نحو “تجاذب الشرعيات” إلى كسر الأجنحة.

لما نقدم ذلك في سوق الصرف السياسي سنجد أن حالة الاستثناء دخلت طورا جديدا باقتلاع “مسمار جحا”،  فلا هذا البرلمان كان قائما منذ قرارات 25  جويلية ولا نقل نبأ نعيه وتشييعه إلى مثواه الأخير بعد أن ظل جثة سياسية متحللة  منذ زمن بشهادة من فيه قبل من هو خارجه. وتبعا للمشهد الجديد بتنا أمام حالتين فرضهما المعطى السياسي الجديد مع “خط ثالث” سينتهي به الأمر إلى أحدهما باعتبار أن دينامية هذا التحول الجديد تقتضي ذلك  : 

 – بدء تبلور ما يشبه “الإطار التشاوري” غير الرسمي والقابل للتوسع بين رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وعمادة المحامين بعد اللقاء الذي جمع بشكل منفصل كلا من رئيس الجمهورية قيس سعيد وأعضاء المكتب التنفيذي الجديد للمنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف وعميد المحامين وقد يتوضح أكثر دور هذا “المجمع السياسي المدني” في الأيام القادمة لكن بنقاط استفهام على معنى التشاركية التي تحدث عنها رئيس الجمهورية.

–  تمترس خصوم القرارات الرئاسية بعد “الأمر المقضي” وراء عوامل الاستنزاف السياسي الانتخابي بنقل معركة الشرعية نحو معركة الضرورة الانتخابية الدستورية (إلزامية إجراء الانتخابات التشريعية في أجل أقصاه 90 يوما) والتذويب الاجتماعي الاقتصادي للسلطة التنفيذية القائمة والممثلة في رئيس الجمهورية  في ظل الأزمة الخانقة التي لا تخفى على أحد وتصدير عامل الزمن نحو قلب هذه الأزمة واستثمارها لدى الشارع والنخب والطيف المعارض بعد مرور ما يزيد عن 8 أشهر عن إعلان التدابير الاستثنائية وطغيان السياسي على “الهم اليومي” للمواطن.

يقود ذلك إلى جر من يقرأ المتغيرات وفق منطق “مسك العصا من الوسط” من الأحزاب والمنظمات والفعاليات المدنية الأخرى إلى اختيار أحد المعسكرين قبل التوغل رسميا في المعطى السياسي الجديد الذي أعلنه رئيس الجمهورية وهو هذا الحوار الوطني بصيغته المشروطة بأرضية الاستشارة الوطنية الالكترونية، وفي كل الحالات سنكون أمام تغير في جغرافيا عدد من الأحزاب وديمغرافيتها عاجلا أم آجلا بمقتضى ما سيفرزه المشهد الانتقالي الجديد بدء من لحظة الاستفتاء ثم الوصول الى الانتخابات نهاية بما ستحمله من نتائح.

إن وضع هذا –  الشرط الضرورة –  بالنسبة إلى قيس سعيد لا يمكن أن يمثل صداعا حواريا كبيرا بالنسبة إلى المنظمات الوطنية التي لا تكاد تختلف رؤيتها كثيرا عن بعض نتائج هذه الاستشارة بغض النظر عن فشلها العددي الواضح في انتظار عرض اتحاد الشغل بالتفصيل لمقررات لجنة الخبراء التي يعتمدها حول الإصلاح السياسي والانتخابي فضلا عن مواقفه المعلنة من أمهات القضايا الاجتماعية والاقتصادية، أما لدى بعض الأحزاب المنتظر مشاركتها فلن ترضى بأي حال أن تلعب دور “الكومبارس السياسي التشاوري” وستلقي بيدها في بقية هذا العجين السياسي والانتخابي.

معالم ما بعد حل الحل 

لاعب وحيد سيحكم السقف الزمني الواصل بين انتهاء الاستشارة الاليكترونية والاستفتاء المرتقب في 25 جويلية وهذا الحوار التشاركي هو الوقت فكلما نجحت المنظمات والأحزاب المجتمعة على طاولته المفترضة في الوصول إلى خلق “فضاء وطني” واسع ومتماسك ومتفق على جملة عناوين سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى وسرعت من زمن “التوافق الحقيقي” لا التوافق المصلحي كلما اقتربت من فكرة الخروج من منطق الفردانية في الحل إلى منطق المجموعة – الدولة وتضييق الزمن الخلافي.

في كل الحالات أيضا تبدو حالة الانسداد السياسي الراهنة إلى زوال متى تم الذهاب الى انتخابات وهو أمر لا جدال فيه وتتفق حوله كل الأحزاب تقريبا بموالاتها ومعارضتها لكن ما هو محل نظر في “العقل السياسي” هو هل أن هذه الانتخابات هدف في حد ذاتها تحت “الإكراه” الاستثنائي أم هي نوع من الترف الديمقراطي الشكلاني في بلد ظل يشكل استثناء في ما يسمى ببلدان الربيع العربي رغم الكبوات؟ 

الإجابة تقول إن كل موعد انتخابي يقتضي توفر جملة أرضيات قانونية وإدارية ومؤسساتية ولوجستية ومالية وإعلامية محددة لإنجاحه وهذا غير واضح إلى الآن أو محل شك وتنازع ما ينسف منطقيا وحسابيا سقف الثلاثة أشهر محددة التي ينطلق عدها من تاريخ 30 من مارس الماضي وهو ما نقله رئيس الجمهورية نفسه بشكل واضح، وإذا اعتبرنا أن 

 الأزمة السياسية لها جذور في تونس تسبق الـ 25 جويلية فإن الوصول إلى موعد 17 ديسمبر القادم يقتضي وجود كل الضمانات لأجل رسم خارطة انتخابية لا تقبل الدخول في تنازع جديد للشرعيات أو الاعتراف بنتائجها.

لقد عاش التونسيون في أغلبهم طيلة عقد كامل نوعا من الرومنطيقية السياسية كانت الانتخابات في حد ذاتها  أحد أسلحتها، فعرفت الساحة السياسية والحزبية  4 انتخابات بين تأسيسية وبرلمانية ورئاسييتين وأخرى بلدية  في ظل “شبه أمية ديمقراطية” لم تمنع كل المراقبين المحليين والدوليين من الإشادة بمجرياتها ونتائجها.

هذه الانتخابات لم تقد لأسباب طويلة إلى استقرار حقيقي في جميع المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وآن استخلاص الدرس ولو كان قاسيا وباهض الثمن على البلاد بعد كل هذه المدة، فلا يجب أن نعيد اختصار الديمقراطية الهشة  التي نعيشها  في الانتخابات فقط لإنهاء الوضع المتأزم، فالصندوق آلية ولكنه ليس كل الديمقراطية  تأو تلك التركيبة المفاهيمية الرومنطيقية التي سنقع في خطيئتها مرة أخرى. 

Skip to content