مقالات

“قضيّة التلاقيح الإماراتيّة”، أزمة الحكم وأسلوب النهضة في تحويل انتباه الرأي العام

خليفة شوشان
صحفي

لعلّ أكثر الأسئلة التي تقفز إلى أذهان المتابع النزيه والموضوعي للمشهد السياسي التونسي منذ عشر سنوات هو لماذا تصدق الشعب التونسي سياسيا فاسدا وتمنحه ثقتها وتكذّب وترذّل السياسي النزيه وتقصيه من دائرة اهتمامها؟ الإجابة الأكثر ترددا وتداولا والتي تنمّ عن الكسل الذهني هي «لأن هذا الشعب جاهل ومنافق وفاسد ولا يستحقّ إلاّ الاستبداد” وهي إجابة لا تصمد كثيرا أمام عديد التّجارب المقارنة لشعوب حرّة ومثقّفة ومتقدّمة حضاريا ابتليت بأسوإ السياسيين والمثال الأكثر تداولا على ذلك الشعب الألماني الذي اختار عبر الصندوق النظام النازي والمثال الأقرب إلينا اليوم انتخاب الشعب الأمريكي للرئيس الشعبوي الأسوإ في تاريخه “دونالد ترامب”.

في أسلوب “تحويل انتباه الرأي العام”

إذًا القضيّة أكثر تعقيدا في ظلّ ما يشهده الملعب السياسي من طرق وأساليب لتغيير الرأي العام والتلاعب بعقول الجماهير لمزيد اخضاعها والتحكّم فيها ومن ضمن أكثر من 14 أسلوب تحكّم حددها فريق عمل جماعي في دراسة على موقع “سياسة بوست” أسلوب “تحويل انتباه الرأي العام” المستمرّ عن قضاياه الحقيقية ودفعه إلى التركيز في القضايا الثانوية والقائم على فكرة إثارة قضية أو شائعة أو فضيحة ما لتحويل انتباه الجماهير خاصة إذا كان هناك رأي سائد يصعب معارضته تجاه قضيّة أو موضوع أو حدث معيّن. وهو أسلوب دفاعي يستخدم نتيجة عدم ثقة أصحاب مصالح أو جهة سياسية أو السلطة في الوقوف أمام تيار جارف من الرأي العام بعد تكوينه حتى لو كان الرأي العام على خطإ من وجهة نظر السلطة أو أصحاب المصالح.

مسيرة النهضة والقطرة التي أفاضت الكأس

ما حدث في نهاية الأسبوع الماضي وتواصل طيلة الأيام السابقة في تونس حول قضيّة شحنة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا قدمتها دولة الإمارات في شكل إعانة إلى رئاسة الجمهورية في تونس، وما أثير حوله من جدل سياسي وصل بالبعض إلى أن أطلق عليه وصم “فيريس غايت” والمطالبة باستقالة رئيس الجمهوريّة يعتبر نموذجا واقعيا على فعالية أسلوب تحويل الانتباه في تونس لعدم قدرة الفاعلين السياسيين على مواجهة حالة الغضب والاستياء الكبيرين من تأخر وصول التلاقيح، في سياق حالة من الاستياء العام لدى غالبية الرأي العام التونسي من الأوضاع العامة في البلاد في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وظهور نذر انهيار وشيك وتدهور الوضع الصّحّي في ظلّ الجائحة وفي غياب انفراج قريب، نظرا إلى تعطل غير مبرّر لوصول اللقاح ومع الأزمة السياسية غير المسبوقة، مثّلت مسيرة حركة النّهضة الاستعراضيّة التي حشدت لها أنصارها على امتداد أسبوعين تحت عنوان “الدّفاع عن الشّرعية” القطرة التي أفاضت الكأس خاصة أن الحزب الذي نظّمها يعتبر أهم ركائز الائتلاف الحاكم الحالي والمشارك في جميع الحكومات المتعاقبة منذ عشر سنوات. ويتحمّل المسؤولية الأكبر في ما آلت اليه الأوضاع في البلاد.

صحيح أن مسيرة النهضة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة على ما يبدو، فقبلها كانت مسيرة الدستوري الحرّ بسوسة في السياق التحشيدي نفسه، وقبلهما كانت موجة التحركات الاحتجاجية الشبابية التي توجت بمسيرة 06 فيفري تزامنا مع الذكرى الثامنة لاستشهاد شكري بلعيد، لكنّها كانت الأكثر استفزازا بالنظر إلى كون الحزب الذي نظمها جزء من الحكومة وللأموال الطائلة التي صرفت فيها ولافتقادها التّبريرَ السياسيَّ المقنع، إضافة إلى حسابات الحركة الداخلية ورسائلها إلى الخارج.

 هذه المسيرة طرحت بقوّة التساؤل حول جدوى الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة في إطار ما يسمّى البروتوكول الصّحّي للتّوقّي من جائحة كورونا، وسياسة التّعامل الصحّي بمكيالين مع المواطنين والقطاعات والقوى السياسية، فأيّ معنى لهذه الإجراءات إذا كانت تفرض على المواطنين وعلى المؤسسات الصّناعيّة وعلى الأنشطة الثقافية والرياضية بتعلّة منع التّجمعات لأكثر من عشرة أشخاص ويسمح بها للحزب الحاكم لتحشيد الآلاف دون مراعاة أبسط القواعد الصحية ودون استشارة أو موافقة وزارة الصحة واللجنة الوطنية لمجابهة فيروس كورونا، هذا دون الخوض في مفارقة التعاطي الأمني مع المسيرات فتلك قصّة أخرى.

هذا الحدث الرئيسي الذي تسبّب في حالة استياء عامة وأدى إلى ما يشبه موجة التمرّد في عديد القطاعات المتضرّرة من الإجراءات الصحية والمطالبة بإلغائها، لم يكن متوقّعا ولم يوضع في حسبان حركة النهضة ووجدت نفسها في مواجهة رأي عام من الصعب مواجهته فكان الحلّ اعتماد أسلوب “تحويل انتباهه” وتوجيه غضبه إلى غريمها السياسي رئيس الجمهورية.

النهضة وتكتيك “تحويل انتباه الرأي العام”

استغلت الحركة المحشورة في الزاوية تدوينة نشرها النائب عن الكتلة الديمقراطية ورئيس لجنة مكافحة الفساد بالبرلمان بدر الدين قمودي، مساء الأحد 28 فيفري 2021 على صفحته على الفايسبوك جاء فيها إنّ “لقاح كورونا وصل منذ مدة من دولة خليجية، المعلومة شبه مؤكدة، وتمّ توزيع اللقاح على كبار المسؤولين والسياسيين وقيادات أمنية وللشعب رب يحميه.” وتكفلت ماكينتها الدعائيّة وجيشها الالكتروني بتعميمها على جميع صفحات الموالية لها لتغرق بها شبكات التواصل الاجتماعي تحت عناوين موجهة نحو رئيس الجمهورية بالأساس خاصة بعد أن نشرت رئاسة الجمهورية بلاغا توضيحيا صباح الاثنين 1 مارس 2021 أكدت من خلاله “ان رئاسة الجمهورية تلقت 500 تلقيح مضادّ لفيروس كورونا، بمبادرة من دولة الإمارات العربية المتحدة: “وقد تمّ، بأمر من رئيس الجمهورية قيس سعيد، تسليم هذه الجرعات إلى الإدارة العامة للصحّة العسكرية وأنه لم يقع تطعيم أيّ كان لا من رئاسة الجمهورية ولا من غيرها من الإدارات بهذا التلقيح، وذلك في انتظار مزيد التثبت من نجاعته، وترتيب أولويات الاستفادة منه”.

تصفية حسابات سياسيّة وحرب الجميع ضد الجميع

أخذت كرة الثلج في التدحرج ليتحول الموضوع إلى قضيّة رأي عام  لتتوالى التصريحات تباعا في سياق إدانة مؤسسة رئاسة الجمهورية واتهامها مرّة بتلقي التلاقيح “خلسة” وإخفاء الأمر على الجميع دون إشعار المؤسّسات الرّسمية وأخرى بإيثار التّلقيح ومن معه في مؤسسة رئاسة الجمهورية على حساب بقية الشعب التونسي، فأعلن الناطق الرسمي باسم حزب قلب تونس الصادق جبنون أن ما وقع “فضيحة تشبه فضيحة “واتر غايت” التي دفعت الرئيس نيكسون إلى الاستقالة” ونفى رئيس لجنة الصحة بالبرلمان العياشي زمّال علمه بالأمر معتبرا أن “السياسيين سمحوا لأنفسم برفاهية التحصل على تلقيح من أطراف أجنبية قبل شعبهم، كأننا في حرب وتمّ حماية القيادات وترك الجنود ليموتوا” ونفت بدورها السيدة نصاف عليّة عضو اللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا “علم اللجنة بوصول شحنات من اللقاح المضاد لفيروس كورونا من دولة الإمارات”، وكذلك كان الأمر مع السيّد الهاشمي الوزير مدير معهد باستور الذي أكّد أن “لا علم له بوصول تلاقيح فيروس كورونا إلى رئاسة الجمهورية”. وعبّر قياديون سياسيون وحزبيون ونشطاء عن سخطهم على ما وصفوه بتعمد رئاسة الجمهورية التعتيم على التطعيمات المقدمة من الإمارات، ونشرت رئاسة البرلمان بيانا رسميا نفت فيه تطعيم رئيس البرلمان والنواب بأي لقاح ضدّ كورونا من أي جهة كانت”.

 بل لعلّ الأمر الأكثر طرافة وسخريّة مسارعة رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى نشر بيان أكد فيه عدم علمه بوصول هذه اللقاحات، ولا بمصدرها، ولا بمدى توفّرها على الشروط الصحية والقانونية الضرورية، ولا بمآلها” وأعلن عن “فتح تحقيق فوري بإذن من رئيس الحكومة بشأن ملابسات دخول هذه اللقاحات، وكيفية التصرّف فيها وتوزيعها”.

الحقيقة الضائعة

بعد ثلاثة أيّام من الجدل الساخن أصبحت قضيّة التلاقيح الإماراتية على كلّ لسان وكل أصابع الاتهام موجهة إلى رئاسة الجمهورية ولم تنفع معها بلاغات النفي والتوضيح ولا الظهور الإعلامي وتصريحات مستشاري الرئيس ونجحت ماكينة “تحويل الانتباه” في مهمّتها ولم يفد معها التوضيح الذي نشره النائب القمودي وأول من أثار القضية لاحقا في تدوينة ثانية أكّد فيه أنه “حين أعلنت على صفحتي أمس أنه يوجد تلاقيح وصلت خلسة إلى السياسيين من دول خليجية، صدقا لم يكن لي أي علم بأن رئاسة الجمهورية جزء من القضية وفُوجئت بالبيان مثل جميع المواطنين. ثبُت لدي أنه توجد جرعات أخرى وصلت إلى تونس من أكثر من جهة واستفادت منها عدّة أطراف، أتمنى أن يفضي التحقيق الذي أذنت به رئاسة الحكومة إلى الكشف عن بقية الجهات التي استفادت من التّلاقيح بصفة غير رسمية. واضطر رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الخروج عن صمته مستغلاّ لقاءه مع رئيس المجلس الأعلى للقضاء ليؤكّد في سياق ردّه على الإشاعات والأكاذيب “نحتاجُ تلقيحا ضدّ الكذب، لكنني لا أظنهُ سيكون نافعا!”

الجميع يعلم، والجميع ينكر

في الأخير وبعد أن تجاوزت القضية الرأي العام الوطني وأصبحت قضية رأي عام عربي وإقليمي ودخلت في إطار الصراعات الإقليمية وتصدرت عناوين الصحف والمواقع والأخبار وتحولت إلى “هدايا مسمومة من الإمارات” و”قضية فساد وغياب نزاهة من قيس سعيّد” تصدر وثيقة رسميّة تثبت أن “التلاقيح الإماراتية” تمّ تسلّمها مع جملة من الإعانات الطبيّة منذ أكثر من ثلاثة أشهر وأنها مرت عبر المسالك القانونية وأن كلاّ من الديوانة التونسية والصيدلية المركزية بما يؤكد علم وزارتي المالية بالأمر، بل تبيّن أن هذا الخبر نشر منذ أشهر على الصفحة الأولى “لجريدة الأنوار” التونسيّة، وليؤكد وزير الصحة فوزي المهدي لاحقا من خلال تدوينة علم وزارته بالتلاقيح وأنه تمّ تسليمها كما ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية التوضيحي إلى الصحة العسكريّة.

السياسيون يختارون الخلاص الفردي

تراجعت موجة الإشاعة وتوضّح الأمر بعد أن نجحت إدارة “توجيه الرأي العام في مهمّتها وصرف الأنظار عن القضايا الرئيسية ولكن المؤسف ما لفته من تشويش داخلي وخارجي زاد في تشويه صورة الدولة التونسية وضرب مصداقية مؤسساتها داخليا وخارجيا وفي تعميق الأزمة السياسية وانعدام الثقة بين رأسي السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الذي يقف اليوم عاريا أمام احتمالين كلاهما مرّ إمّا أنّه لا يعلم فعلا بقضية التلاقيح الإماراتية ولم يراجع وزراءه والمؤسسات التي يترأسها وتسرع بإعلان نفي علمه وإعلان تحقيق وهو أمر مستبعد لكن في كل الحالات يعتبر جهله مصيبة وإمّا أنّه كان يعلم ذلك وتعمد الإنكار موظفا الأمر سياسيا لحشر الرئيس في الزاوية وتصفية حساباته معه ومزيد نشر الغموض حول الموضوع وتحويله إلى فضيحة سياسية  فتكون المصيبة أكبر. لكن يبقى الأمر الأخطر من كل ذلك اقتحام السياسة كلَّ المجالات بما فيها صحّة المواطنين واستعداد السياسيين لاستعمال كلّ الاسلحة دفاعا عن مصالحهم ونفوذها بقطع النظر عن الصالح العام وأن يكون كل الغبار الذي أثير حول هذه القضية للتغطية على الفضيحة الحقيقية المتمثلة في تحصل بعض السياسيين والمسؤولين على تلاقيح من السفارات وإدخال بعضهم اخرى في “حقائب ديبلوماسية” كما راج أو تنقل آخرين لتلقي جرعات في الخارج ثم العودة “خلسة” وانتصارا للخلاص الفردي على حساب شعب اختارهم لإدارة شؤونه، في حين يبقى السؤال الأبرز متى تصل اللقاحات خارج اهتمام الرأي العام المغيّب واهتمامات الحكومة والفاعلين السياسيين.

Skip to content