مقالات

ما بعد كـــورونا، يجـــب أن تكـــــون النـقابــات في قلب الحراك القيمي

"هذه المرحلة على قساوتها النفسية، باعتبارها أشبه بالسجن المسيج بالخوف من الفناء، إلا أنها ستكون بلا شك محطة مهمة لإنعتاق الذات من سجن أكبر"

نصر الدين ساسي
صحفي

عديدة هي المراجعات التي بات يفرضها فيروس كورونا المستجد خصوصا بعد حصيلته الكارثية في الأرواح أولا وعلى المستويين الإجتماعي والاقتصادي ثانيا حصيلة أكدت بما لا يدعم مجالا للشك بأن النظام الرأسمالي الذي ساد بقيمه وأحلامه الوردية وتركيزه المفرط على قيم النجاعة وخوصصة الخدمات والمرافق العامة والتفويت في دور الدولة لصالح افراد ومجموعات تنشط في مختلف القطاعات قد أظهر حدوده وفشله في التأسيس لمنظومة قيمية لا تكون منتجة للأزمات وتكون قادرة على إدارتها في حال وقوعها. هذا النظام أثبت حدوده خصوصا في القطاع الصحي في كافة الدول التي مر بها الفيروس حيث ظهر جليا قيمة مؤسسات الدولة والقطاع العام في هذا المجال الحيوي وان القطاع الخاص لم يكن سوى واجهة ومجالا استثماريا للربح ولم يحرص على تملك أدوات إدارة الأزمات بشكل تشاركي وتضامني فاعل.

في تونس عرى هذا الفيروس بؤر الفقر وانعدام التوازن والتجانس الاجتماعي وهشاشة مواطن الشغل وضعف البنى التحتية والتخلف التكنولوجي وتردي منظومتي التعليم والصحة زيادة على تدني مستويات الحوكمة والحس المواطني وهذا الاخير أثبت نجاعته في إنجاح المعركة ضد الفيروس في عديد البلدان من خلال فعالية التزام المواطنين بضوابط الحجر ومقاييس التباعد الاجتماعي. هذا الواقع الجديد الذي كان مغيبا تحت لافتة الانتقال الديمقراطي وحمى الصراعات السياسية والمحاصصات الحزبية ظهر اليوم بأننا مازلنا بعيدين عن الانتقال الديمقراطي ومقوماته على المستوى السياسي وإدارة الشأن العام للبلاد ولعل بارقة الأمل في تونس تكمن في تنامي دور مكونات المجتمع المدني وتطوره في إتجاهين أولا عبر المساهمة الفاعلة والمباشرة في إدارة الأزمة من خلال التطوع والتوجيه وإسناد الفيئات الهشة اجتماعيا أو عمريا كما ساهم المجتمع المدني بفاعلية أيضا في عمليات الفضح والتبليغ عن مختلف التجاوزات بشكل «أحرج» السلط  وحرك الرأي العام. الاتحاد العام التونسي للشغل من جهته واصل لعب دوره الوطني منذ الإعلان عن اكتشاف أول حالة عدوى بهذا الفيروس في تونس شهر مارس المنقضي حيث إنخرطت المنظمة النقابية منذ البداية في مسار مواجهة تفشي هذا الوباء وقد حرصت أولا على الحفاظ على صحة العمال وحمايتهم وتفعيل التضامن النقابي والعمالي والدفع نحو إقرار الإجراءات الاجتماعية بالتوازي مع إجراءات إنقاذ المؤسسات الاقتصادية وضمان شفافية إدارة هذه الأزمة الصعبة.

متغيرات ومجالات مفتوحة للتفكير

جميع رجال الفكر وعلم الاجتماع أكدوا بأن فيروس كورونا سيفصل بالضرورة بين مرحلتين ما قبله وما بعده ومن المؤكد اليوم بحسب مجمل الأطروحات بأن العالم لن يعود إلى ما كان عليه في السابق سواء مرحليا على المدى القصير أو كذلك على المدى البعيد وقد بدأت هذه الجائحة بالفعل في إحداث تحولات في النظام الحالي بطرح عديد المتغيرات وضرب عديد الواجهات ودحض الأكاذيب التي كانت تروج على أساس أنها نجاحات للنظام الرأسمالي لتفجر بؤرا وتفتح نوافذ للتفكير على مختلف المستويات الذاتية والنفسية وكذلك الاقتصادية والاجتماعية والابستيمولوجية، صدمة هذا القاتل المجهري المتخفي وعجز العلم عن كبح تفشيه وحقيقة هشاشة دول ومجتمعات وقارات كلها عوامل قادحة للتفكير وإعادة النظر لبلورة مقاربة قيمية جديدة تتناسب مع حقيقة الأوضاع التي فضحها تفشي هذا الوباء.

من جدران المنازل ومن الحجر الصحي المفروض على أكثر من سكان الكرة الأرضية تنطلق خيوط التحليل والتفكير في مسار الإنسان وسط هذا النسق الجنوني الذي جعل من الذات الإنسانية دمية يتحكم فيها نمط الاستهلاك وتراقصها العلامات التجارية ويحضنها الرخاء الكاذب من الحجر يجب أن تبدأ المراجعات ومحاولات بلورة رؤية جديدة لهذا العالم المجنون بالسعي إلى أنسنتها وعقلنتها وعدم ترك المجال لتكون الذات فردا من قطيع لا تملك لمصيرها قدرا ولا هي قادرة على صنع مصيرها لذلك فإن هذه المرحلة على قساوتها النفسية باعتبارها أشبه بالسجن المسيج بالخوف من الفناء والمرض إلا أنها ستكون بلا شك محطة مهمة لإنعتاق الذات من سجن أكبر وإنفلاتها من قيود الاستهلاك ونمطه المفروض من النظام الرأسمالي. كورنا سيدفع نحو عديد المراجعات وسيضع عديد القيم السائدة والمعلبة على المحك وقد تأكد بأن نتائجه الراهنة والمستقبلية ستقوض المنظومة القيمية التي باتت مهترئة وغير متجانسة فهي من أول الضحايا الواجب إنعاشهم بضخ «أكسيجين» الإنسانية والبعد الاجتماعي والتضامني حتى لا يفقد الإنسان إنسانيته وحتى يعود برغبة أكبر وقدرة أفضل على بناء عالمه كما يريد ويشتهي.

النقابات في قلب الحراك القيمي       

تعتبر النقابات من الفاعلين الرئيسين في المشهد العالمي ما بعد الكورونا باعتبارها من أكثر الأطراف المتضررة مباشرة من تبعات هذا الفيروس والذي تشير جل الإحصائيات على أن فواتير التسريح والبطالة ستكون باهظة على الأجراء في مختلف المجالات والقطاعات وعليه فإن الحركة النقابية مطروح عليها اليوم قراءة هذا الواقع بشكل يدفع نحو التأسيس لمنظومة قيمية جديدة من دعائمها أولا تعديل الإختلالات من حيث العدالة الاجتماعية والجبائية والتنمية الاقتصادية العادلة والتوازن الجهوي التي ساهم فيها النظام الرأسمالي المتوحش طوال العقود السابقة لذلك فإن الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها يجب أن تدعم قيمة العدالة وتكافؤ الفرص بين جميع فئات وأفراد المجتمع. وثاني الخطوات الضرورية يجب أن تكون على مستوى إعادة الاعتبار والقيمة لدور الدولة التي تبقى ضمانة لمدى النجاح في مواجهة الأوبئة والأزمات ليعود مفهوم الدولة الراعية بقوة خاصة في فرنسا وألمانيا وكندا ومن بين المراجعات الضرورية كذلك على مستوى تفعيل قيم التضامن العمالي والنقابي والإجتماعي خصوصا وأن تبعات الأزمة وكلفتها الاجتماعية ستكون باهضة من خلال تسريح ملايين العمال وإحالتهم على البطالة وتنامي الفقر والخصاصة وهو ما يقتضي تفعيل الجهود التضامنية لمواجهة مشتركة لهذه التبعات الوخيمة والتي من المنتظر ان تستمر طوال العامين القادمين وهي فترة سترهق الشعوب على مختلف الاصعدة.

من بين المجالات الاساسية المفتوحة على المراجعة هي تدعيم قيم المواطنة والممارسة الديمقراطية وتغليب الحس الوطني ومشاعر الإنتماء للوطن حيث أثبتت عديد المعطيات والمستجدات الاخيرة عزم عديد المؤسسات المنتصبة خارج حدودها العودة إلى موطنها في مهمة سيادية وطنية مع توصيات عدد من الدولة إلى تقليص التوريد والتصدير والاعتماد على المنتجات المحلية بمختلف أنواعها علاوة على تأميم الشركات الهامة على غرار خطوط الطيران وغيرها من المؤسسات الوطنية الكبرى والسيادية لذلك من الواجب اليوم تدعيم قيم المواطنة والانتماء وتخفيف أشكال التبعية ودفع ثقافة العمل. من ابرز الميادين التي تقتضي المراجعة والمرتبطة بأهمية دور الدولة هي أهمية القطاع العام وخصوصا في مجالي الصحة والتعليم حيث شكلا هذين القطاعين دعامة للبلدان في مواجهة فيروس كورونا والحد من ضحاياه، لذلك اليوم لا مفر من الإستثمار في هذين القطاعين الواعدين وإعلاء قيمتهما لنتجنب جميعا الإنزلاق نحو الهاوية او الوقوف على أسوار الدول وارتهان مصيرنا بالمعونات وبما تنتجه التكنولوجيا في تلك البلدان.

النقابات مطروح عليها اليوم مراجعة سلم المهن ومدوناتها ونظم تأجيرها حيث أثبتت مواجهة فيروس كورونا أن خط المواجهة الأول سواء من عمال الصحة أو النظافة او الاسلاك الامنية والجيش والديوانة التي تواصل العمل في هذه الظروف الصعبة والخطيرة ليست هي الأعلى في سلم التأجير وفي المكاسب والإمتيازات وظروف العمل بل هناك قطاعات اخرى تنعم بعديد الإمتيازات والأجور المرتفعة لكنها لا تلعب دورا يذكر في الأزمات والحروب وفي معركة البناء وعليه فإن إعادة النظر في الأدوار المجتمعية وتثمين المهن وتقريب نظم التأجير من الإجراءات الهامة في بناء العدالة الاجتماعية وتدعيم الشعور بالانتماء والتشجيع على البذل والعطاء.

وأخيرا لا شك في الانسان سينتصر ضد الفيروس لكنه يبقى مطالبا بالانتصار لذاته وبناء عالم جديد يسوده العدل والمساواة والتضامن والخير.    

Skip to content