مقالات

نجلاء بودن وجيولوجيا الزمن

فطين حفصية
صحفي
بعد نحو 9 أسابيع من انتظار فاصلة مهمة في خارطة الطريق “النظرية ” كشف رئيس الجمهورية قيس سعيد عن هوية رئيس الحكومة الأول ما بعد التدابير الاستثنائية المعلنة في 25 جويلية الماضي وملحقها الانتقالي في 22  سبتمبر، هوية  فاجأت الرأي العام الداخلي والخارجي وتتعلق بشخصية ذات عمق أكاديمي بحثي بحت ورمزية جندرية بكونها أول إمرأة في تونس والوطن العربي تكون على رأس منصب تنفيذي هو الثاني في هرم الدولة.
 
تمسح السيرة الذاتية لرئيسة الحكومة المكلفة نجلاء بودن التي اجتمعت فيها خصلة ” لا تشوبها شائبة ” وفق التوصيف المشروط لرئيس الجمهورية لتسمية صاحب القصبة الجديد مساحة أكاديمية وجامعية وبحثية متنوعة أهمها عملها كأستاذة تعليم عال بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس وإدارتها لملف حيوي صلب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يتعلق بتنفيذ برامج البنك الدولي بالوزارة بعد استكمال مهمة سابقة تولتها وهي الجودة و” انغماسها” لأعوام في تدوير مربعات التعاون العلمي جنوب شمال، و ينقل متعاونون معها أنها أحكمت نسيج المفاوضات مع المانحين الدوليين لجلب تمويلات مهمة لإصلاح الجامعة التونسية واستنهاض
 “السبات البحثي” وإعادة الإشعاع للمراكز الأكاديمية التونسية  المتراجعة  ترتيبا في الخارطة العربية والإقليمية بعيدا عن “إحداث الضجيح” في منابر الإعلام حيث تفضل وفق هؤلاء دور المسؤولة التقنية الصامتة على الظهور الإعلامي.
 
رئيسية الحكومة ما بعد الستين  بثلاث سنوات وأصيلة مدينة القيروان مختصة في  الجيولوجيا  وهو (علم يعنى بطبقات الأرض)  ستكون أمام تحدي الحفر العميق في صخور جملة أزمات تعرفها تونس : في الاقتصاد والتنمية  والتشغيل والحد من البطالة، وفي مكافحة الفساد والجائحة الصحية وتحسين الخدمات العامة والحد من انهيار القدرة الشرائية.  وخارجيا عبر تحدي شبح نقض الالتزامات مع الصناديق الدولية، الذي يطل برأسه في كل مرة، والديون الخارجية وحسن تشبيك العلاقات الاقليمية والدولية بدء بالجوار المتحرك مرورا بالضفة المتوسطية المقابلة نهاية باللاعبين الأساسيين في القرار العالمي.
 
لا تكفي السير الذاتية الطويلة ولا العريضة أو حسن النوايا لتسيير الحكومات عند الاستثناء. إنه زمن يتطلب رؤية وقرارات خصوصية لوضع مهتز ومتحرك لكن لرئيسة الحكومة المكلفة أوراق قوة أولية واستثنائية تلعب لصالحها، فهي آتية من خارج الأحزاب والإيديولوجيا و”بؤر التوتر” والمشاحنات السياسية، ولها مهمة مقيدة ومحددة نظريا في الزمن تتوقف بانتهاء الفترة الاستثنائية التي لا ينبغي أن تطول أكثر في عمل الحكومات الحالية واللاحقة، أما المعطى الثالث والأهم فهي ليست المسؤولة التنفيذية الأولى وبالتالي صاحبة الرسم الهندسي النهائي والكامل لتركيبة الحكومة وأضلعها وشكلها وعملها وفق معنى الأمر 117 وهنا مربط
 “الحكم المنطقي” لعمل الحكومات الذي تنص عليه أعراف ال 100 يوم ومنه  تحدد النجاح الأولي أو الفشل من عدمه بعد مرور هذه الفترة.
ضرورة تفصيل عمل الحكومة 
 
بعيدا عن تعقيدات الوضع الدستوري و”معارك الفصول” والتشريح والتأويل النصيين لنيل الثقة، التي هي ليست موضع الحال،  تبدو حكومة بودن أمرا واقعا كحال إجراءات ما بعد 25 جويلية التي أنهت بإقرار الأغلبية حاكمين ومعارضين ومترددين أزمة نسقية شاملة وخطيرة على البلاد، كما يبدو أن ما هو مطلوب منها كإشارات حسن نوايا  ضبط 4 عناوين أساسية: 
1/ تقديم حقيقة الأزمة الشاملة في تونس والمصارحة التامة بكشف حساب 10 سنوات و”الحلول المأساوية ” المقترحة.
 
2/ تفصيل عمل الحكومة  كحكومة أزمة بأقطاب تقنية وتبسيط تعهداتها العملية والزمنية وما يمكن تحقيقه في فترة استثنائية قصيرة نظريا.
 
3/ كيفية الملاءمة بين الصلاحيات الممنوحة لرأسي السلطة التنفيذية مابعد الأحكام الانتقالية وتحقيق التطابق في النظر ومن ثمة تجانس العمل الحكومي في علاقة بالقرار الرئاسي حتى لا تصبح” الحكومة عليلة ” أو مجرد أداة تنفيذية ليد رئاسية طولى.
 
4/ تحديد علاقة الحكومة بالأطراف الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل وطبيعة الالتزام بجملة اتفاقيات تنتظر التفعيل وإدارة المفاوضات الاجتماعية المرتقبة فضلا عن التواصل مع كبرى المنظمات المهنية والمدنية والحقوقية بعد فترة  “الجفاء” التي تلت نهاية شهر جويلية.
 
إن الإسناد والمقبولية الداخلية العامة للحكومة المرتقبة ليست تذكرة عبور نهائية  لنفق الأزمة الطويل والمتغيرات العميقة أو طريقا لعدم سماع صدى الأصوات المعارضة والناقدة  فجيولوجيا الزمن لها طبقتها النهائية والتاريخ ليس آثارا فحسب بل أثر ودوران ساعة العد الحكومي انطلقت، وعليه فإن  رئيسة الحكومة المكلفة التي باتت  “المسؤول الثاني” في ترتيب القرار وتصدر الموقع عند الطوارئ الحياتية  أمامها مسؤوليتان تاريخيتان وكبيرتان يظل الحكم عليهما رهين جيولوجيا هذا الزمن التونسي الحالي : تكثيف رمزية تكليفها وتقديم الصورة النموذجية للمرأة التونسية وقدرتها على المشاركة الفاعلة والمسؤولة في القرار الوطني  بمصارحة الشعب التونسي أولا وثانيا وتاليا وإعطاء المصعد الاجتماعي جرعة معززة ليحمل الأفراد من مدرج التعليم إلى أعلى طوابق الحكم.
Skip to content