مقالات

هل تكون كورونا يسارية هذه المرة؟

طارق الشيباني

يستعد العالم هذه الأيام لقضاء رأس السنة الميلادية في المنزل. مناسبة قد تغيب عنها صبغتها الاحتفالية، فمن منا لم يفقد قريبا أو صديقا بسبب جائحة الكورونا؟ جائحة بقدر خطورتها بقدر عدلها في توزيع مصائبها على مختلف الطبقات الاجتماعية ومختلف الدول مهما كانت درجة تطورها أو تقدمها…  ومع ذلك، يعتقد الكثير من اليساريين في العالم أن أزمة فيروس كورونا تجعل قيم اليسار تنتصر ولو لبرهة… كيف ذلك؟   أغلب الدول وخاصة العظمى منها والرافعة لشعارات الليبرالية الاقتصادية والمبادرة الحرة، أمريكا وفرنسا وكندا مثلا، أصبحت متدخلة مرة أخرى- كما في أزمة 2008 -في جميع المجالات الاقتصادية وخاصة الحيوية منها، وتم التخلي على الحلول التقشفية في الميزانيات العامة للدول، وخفض صوت الداعين إلى خصخصة خدمات الرعاية الصحية بل وارتفعت الأصوات المنادية بتأميم المصحات وتسخيرها، وطفت إلى السطح من جديد أفكار تعميم الضمان الاجتماعي والتكافل والدولة الراعية، حيث تكفلت أعتى الدول الليبرالية بأغلب الشرائح الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية المتضررة جراء جائحة كورونا (قدمت كندا منحة بقدر  ألفي دولار لكل من فقد وظيفته جراء الكورونا وذلك لمدة 6 أشهر، و1200 دولار للطلبة لمدة 4 أشهر، و40 ألف دولار كقرض دون فوائد لشركات الصغرى والمتوسطة).

وفي هذا الإطار، يعتبر اليسار في العالم بمختلف حساسياته: الاشتراكيون الديمقراطيون في الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديمقراطي الأمريكي، واليسار الراديكالي في فرنسا (la france insoumise) وفي تونس (أحزاب الجبهة الشعبية سابقا)، والإيكولجيون (في بلجيكا وسويسرا)، أن فيروس كورونا أرضية مواتية لإعادة نشر أفكاره وخاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي. ويحاول كل طرف من هذ العائلة السياسية الواسعة تكييف أزمة فيروس كورونا حسب روايته السياسية الخاصة. أما بالنسبة إلى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية الاجتماعية فالأمر دليل على الحاجة إلى دولة حماية اجتماعية تركز على الرعاية.

ويرى اليسار الراديكالي، أن أزمة الكورونا وأستتباعاتها دليل على الحاجة إلى الانفصال الجذري عن الرأسمالية، ودعوة إلى الحد من دعم الاستثمار في القطاع الخاص والمطالبة بمسك الدولة  بزمام القطاعات الحيوية على الأقل و”أخلقة” الاستثمار الاقتصادي…  بالنسبة إلى  الإكلوجيين ، فهو دليل على حالة الطوارئ البيئية وإنذار لما يقترفه الإنسان في حق الطبيعة والمناخ جراء التصنيع الملوث والمستنزف للثروات الطبيعية.

ورغم هذه  الاختلافات البسيطة في محاولة تطويع الواقع كل حسب سرديته الأيديولوجية، إلا أن المؤشرات الحالية تشير إلى إمكانية كبرى لرجوع اليسار بمختلف مشاربه إلى واجهة الحياة السياسية إما في السلطة أو في المعارضة. ويعتبر هزيمة الحزب الجمهوري في أمريكا رغم انجازاته الاقتصادية  دليلا على نزعة الناخبين وميلهم للتصويت للأحزاب التي تقدم برامج اجتماعية أكثر من اقتصادية… 

وحتى في غياب الانتخابات، قد يكون ميزان القوى أفضل بالنسبة للمنظمات النقابية  للتفاوض مع الحكومات وممثلي الأعراف حول مطالب أكثر اجتماعية.

ومع ذلك، يعتبر الكثير من المحللين السياسين والاقتصاديين أن ربط عودة اليسار بجائحة الكورونا ضرب من الأوهام في تذكيرهم بالأزمة الدولية سنة 2008، حيث كان الحديث حينها حول تأميم  البنوك  نظرا لتضرر صورة الممويلن الدوليين  والعولمة الليبرالية بشدة. وفي ذلك الوقت أيضًا، اعتقد اليسار أن الأزمة ستكون مواتية.

ومع ذلك، ظل النظام الرأسمالي مهيمنا بعد تدخل الدول لإنعاش البنوك عن طريق ضخ التمويلات فيها لتغطية عجزها. وفي أحسن الحالات وقتها شهد المشهد السياسي عودة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (فرنسا وأسبانيا مثلا)، عكس اليسار الراديكالي والإيكولوجي الذي لم يعد إلى الساحة إلى بعد 2010.

وحتى الانتصارات الانتخابية للاشتراكيين الديمقراطيين في بعض البلدان الأوروبية (اليونان وإسبانيا والبرتغال…) لم تكن في حجم انتصارات الشعبوية القومية (أوربان في المجر، سالفيني في إيطاليا، جونسون في بريطانيا، فلامس بيلانج في بلجيكا…) ولا انتصارات الليبرالية (ماكرون في فرنسا، ميركل في ألمانيا)…  وبذلك يؤكد العديد من متابعي المشهد السياسي أن معركة الأفكار وصناديق الاقتراع لا تتحول دائما لصالح اليسار. صحيح أن هذه الأزمة مختلفة تمامًا عن عام 2008 حيث تمتاز عنها ببعدها الصحي والاجتماعي ارتباطها باليومي والملموس للمواطن البسيط. ومع ذلك، يجب أن نكون حذرين للغاية بشأن التأثير السياسي لفيروس كورونا. حيث أن اليسار تمكن في أكثر من مرة من استيعاب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أيديولوجيا و فكريا، لكن واقعه التنظيمي المتشرذم في مختلف التجارب العالمية يجعل من وصوله لسلطة امرا صعبا، وفي العديد من الأحيان مستحيلا وخاصة بالنسبة لليسار الراديكالي واليسار الإيكولوجي. وقد يتفق الجميع على صدقية ونضالية اليسار وصحة مقولاته وخاصة في الأزمات، وقد يكون هذا الإجماع بوعي أو عند الحاجة ما يجعل منسوب التعاطف معه مؤقتا، وذلك ما يرسخ فكرة أن اليسار “يريد” دائما، لكنه لا يستطيع أو لا يمكنه ذلك.  فهل يغير فيروس كورونا “قواعد اللعبة” هذه المرة؟ قد تكون الانتخابات الفرنسية القادمة سنة 2022 محطة هامة لتقييم “يسارية الكورونا” من عدمها في ظل اجماع أغلب الناخبين الفرنسين ونيتهم للتصويت العقابي ضد ماكرون. وبذلك إمكانية حصر الصراع بين اليسار الراديكلي الفرنسي بقيادة “ميلونشون” واليمين القومي المتطرف بقيادة “لوبان” …   

——————————————————————–

المراجع : franceculture/emissions/politique/le-coronavirus-a-t-il-deconfine-la-gauche

lejdd.fr/Politique/tribune-covid-19-jean-luc-melenchon-alerte-contre-les-debordements-du-pouvoir-solitaire

https://www.mc-doualiya.com/articles/    

كورونا وحلم اليسار الأمريكي: نيوجيرسي تفتح المجال لفرض ضرائب أكبر على الأثرياء على خلفية أزمة كوفيد-19 https://www.alaraby.co.uk/

كورونا: صمت اليسار يخرقه “فرنسا الأبية” www.canada.ca/fr/services/prestations/ae/pcusc-application

Skip to content