مقالات

100 يوم بعد مباشرة مهامها… الحكومة في عين العاصفة

فطين حفصية
صحفي

تدخل حكومة الفاتح من سبتمبر التي يقودها هشام المشيشي دورة الـ 100 يوم الأولى في العداد الزمني لتولي المسؤولية بعد التصويت لصالحها في البرلمان، وآن وفق العرف الديمقراطي الجاري وضعها أمام محك التقييم وساحة المساءلة أمام النواب والشعب،  لكن رغم دفع بعض الآراء بأن ذلك لا يسري كليا على الحالة التونسية التي تعيش انتقالا ديمقراطيا بدل ديمقراطية مستقرة فإنه على أية حال تقليد سياسي محمود وتمرين رقابي سارت فيه البلاد منذ حكومة الراحل الباجي قايد السبسي- على وقتيتها آنذاك –  جعل الحاكم في موضع السؤال والجواب والتقييم  والمحكوم في موقع المتابعة والتصنيف التقييمي سلبا أم إيجابا.

يستحضر التونسيون ذات مرة تصريحا صحفيا طريفا وغريبا في الآن نفسه لرئيس أول حكومة منتخبة بعد الثورة حمادي الجبالي حين رد على سؤال يتعلق بلماذا وصلنا إلى هذا الوضع بسؤال فحواه أين الحكومة والحال أنه رئيسها؟ وبعد نحو 9 سنوات عن ذلك التاريخ يعيد الكل تقريبا طرح السؤال نفسه مع تنسيب واضح وهو: أين الحكومات السابقة والحالية؟ وتوسيعه بالنسبة إلى هذه الحكومة التاسعة منذ جانفي 2011 ليشمل أيضا ماهية الطريق الذي تمضي فيه إثر اشتعال كل الأضواء الحمراء؟ 

يقول راهن السنة الحالية إننا عرفنا ثالث رئيس حكومة في أقل من 10 أشهر على تنظيم الانتخابات وهو تأشير يبين بوضوح حالة اللاستقرار الحكومي والتدافع السياسي إذ عرفنا لأول مرة في تاريخ البلاد السياسي والبرلماني سقوط أول حكومة قبل المباشرة بعدم تزكيتها  في البرلمان وهي حكومة الحبيب الجملي التي ولدت في الأصل ميتة، أما حكومة الياس الفخفاخ فقد انتهت باستقالة مدوية لتأتي أخيرا حكومة المشيشي غير المتحزبة على أمل إنهاء حالة العطالة الحكومية التي سببها المشهد السياسي المتناقض في قصر باردو وإن تواصل تجاذب أدائها بين السياسيين… وما إن بدأت هذه الحكومة في الاشتغال حتى داهمها ما يداهم سابقاتها وهو ضمان أوسع حزام سياسي فكانت مثل من يلعب لعبة السير في الطرق الملتوية المؤدية إلى نقطة الوصول في مسابقة اختيار  المسلك الصحيح التي كانت تملأ ركن الترفيه في الصحف والمجلات.

وأشارت حالة الانسداد السياسي التي تفاقمت بعد “انفجار التقاطع الحكومي الرباعي” بين النهضة والتيار والشعب وتحيا أن الإتيان بحكومة المشيشي كان أمرا مقضيا أمام اللاعبين البرلمانيين الأساسيين للبقاء سياسيا فالحكومة أمامهم وظل إعادة الانتخابات ورائهم  ما جعلهم يمررونها تحت “حكم الضرورة أو الإكراه”، ورغم إعادتها رسم خارطة التحالفات  بقيام جبهة برلمانية تجمع “حبا سياسيا مصلحيا ووجوديا” بين النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة فإن حكومة المشيشي التقنية ظلت بلا أصدقاء خلص ولا أعداء ألداء في سلم الفعل السياسي وهي مفارقة تونسية صرفة لكن الصنيع بديهي في مجريات السياسة المقارنة فكل حكومة دون أحزاب تكون بالضرورة معزولة  اذا فرضها سياق سياسي مخصوص لكنها غير متروكة بالكامل، وخلاصة الأمر أنها بقيت وستبقى فوق كرسي هزاز يتحرك لكنه يدور في المكان نفسه، كما بدت بعض الدعوات الحزبية المحتشمة لاعطائها “جرعة وزارية حزبية” نوعا من الترف السياسي لكنها غير بعيدة عن اختبار للنوايا وردود الفعل قبل تجميلها حكوميا ومن ثمة سياسيا.

بعد المائة يوم شكلت حكومة المشيشي خارطة برلمانية واضحة يصل حزامها الداعم إلى 120 نائبا وقربت بين الأضداد، ومقابل ذلك أعادت هندسة المشهد البرلماني المعارض كما وسعت من مساحة التجاذبات بين القصور الثلاثة (باردو وقرطاج والقصبة) توازيا مع الأزمة المعلنة بين باردو وقرطاج رغم تغليف التصريحات من هذا الجانب أو ذاك برسائل الطمأنة. وينتظر في قادم الأسابيع أن تكون تحت ضغط غير مباشر من طاولة   “الحوار الوطني 2” إن تم الوصول الى تجميع أكثر ما يمكن من الفرقاء بعد أن أطلق الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة تختلف سياقا وظرفا وشكلا وفاعلين عن حوار 2013.

 في مرمى كورونا وموجة الاحتجاجات 

طيلة ما يزيد عن ثلاثة أشهر تابعت الحكومة مجهود سابقتها في مكافحة الفيروس المتمدد وإن تغيرت الخطط الوقائية والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية فبعد انفراط العدوى إلى مجتمعية لم يبق غير “التعايش الضروري”  مع كورونا بالتزامن مع تواصل انتفاخ الكلفة الباهضة  لهذه الجهود  فالأرقام تقول إنه تمت خسارة نحو 170 الف وظيفة في حين تخطت نسبة الانكماش الاقتصادي نسبة 20 % وأتمت

نسبة البطالة سقف ال 18 % وهي أرقام مفزعة لا تخص تونس فقط لكنها جعلت من اقتصادها المترنح بطبعه في مرمى كورونا وما يتبع ذلك من ارتدادات اجتماعية.

ارتدادات لم تتأخر كثيرا  فما إن أغلقت حكومة المشيشي ملف الكامور المتوارث عن سابقتيها في ولاية تطاوين حتى انفتحت لها  موجة عالية من المطالب القطاعية والمناطقية  و” بؤر شرعية وغير شرعية” من الاعتصامات والاحتجاجات الاجتماعية في جهات مختلفة  نادى بعضها  ب”كومرة “تنسيقياته وتلبية مطالبها على نفس الشاكلة التي ترضي “أهل الدار” وتكفيهم قبل كفاية “الغرباء” مثلما قدر راشد الغنوشي رئيس البرلمان وحركة النهضة الأمر في حوار تلفزي  مؤخرا، وبعد أن شهدت مدن عدة طوابير طويلة في انتظار قارورة غاز منزلي وتعطلت وسائل إنتاج مختلفة تواترت المواقف تباعا من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والقائمين على منظمات وطنية وعلى رأسها اتحاد الشغل وأحزاب وفاعلين اقتصاديين حين رأوا في تحول البلاد إلى ما يشبه  “الجزر الاحتجاجية الفوضوية ” تهديدا لكيان الدولة وعبثا يجب إيقافه بقوة القانون لا قانون القوة.

ومع رفع كل حكومة عنوانا لعملها من “العمل أولا وأخيرا” إلى “حكومة الوضوح وإعادة الثقة” فإن المشيشي نقل أن《 حكومته الوليدة تحمل مشروعا وطنيا شاملا رغم أن الأوضاع المالية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية هي نتيجة طبيعية لتراكمات سابقة》 بل تابع في ندوة الولاة مؤخرا أن 《 التداين اللامسؤول والشعبوية المفرطة وتعطل جل محركات التنمية طيلة السنوات الماضية تجعل فريقه يبحث عن حلول مبتكرة لإنعاش الاقتصاد والبلاد.

 تصريحات جميلة ومتفائلة شكلا فمن العادي الحوصلة أن الحكومات تغيرت ومنطق التعامل مع القضايا المحلية الحارقة لم يتغير لكن الطرح الذي يقدمه المشيشي في مقاربته التنموية التي تعتمد القاعدة بدل القمة والجهات بدل المركز يمكن أن ينحو منحى”قطاعيا جهويا عائليا محاصصيا” في بعض المناطق إذا لم تكن التمثيلية الفعلية لهذه الجهات مبنية على هدف تشاركي حقيقي يحدد مكامن القوة والضعف التنموي والاقتصادي والاجتماعي في كل جهة ويضمن حسن الإعداد وفاعلية الانجاز لأي مشاريع مرتقبة مهما كان مداها مستعجلا أم متوسطا أم بعيدا  كما تطرح “البيروقراطية العميقة” في كل الإدارات المكبلة بقوانين بالية جملة أسئلة حول هذه المقاربة إن كتب لها أن تتم وسط رمال الاحتجاجات المرتفعة.

إن حالة المخاض العسير التي عرفها مشروع قانون المالية وميزانية الدولة المتوجب تمريرهما برلمانيا قبل موعد  10 ديسمبر  الدستورية تتزامن  مع إتمام هذه الحكومة لـ 100 يوم من عملها وهي أيام قليلة في عمر الحكومات لكن  كشف حسابها يؤكد أنها كمن يمشي فوق الجمر في ظل كل المناخات المتوترة وآخرها تحول البرلمان إلى ساحة بدنية بعد العنف المسجل داخل قبته بالموازاة مع  إطلاق النار الكلامي اليومي بين الكتل والنواب وباعتبار أنها حقيقة في قلب منطقة الخطر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وصحيا مع ارتفاع وتيرة الغضب الشعبي واقتراب شتاء تونس الساخن تقليديا بين شهري ديسمبر وجانفي… كل ذلك يجعلها في عين العاصفة التي لا نعرف متى تخف حدتها.

Skip to content