الذاكرة النقابية

20 جانفي 1946 – 20 جانفي 2021 :خمس وسبعون سنة من النضال والبناء

في الذكرى 75 لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل يتجدّد الموعد مع التاريخ وتتأكّد مكانة منظّمتنا العتيدة التي شكّل تاريخ تأسيسها منعرجا تاريخيّا على صعيدي النضال الاجتماعي والكفاح الوطني، فكان هذا التأسيسي فاتحة جديدة في تاريخ تونس المعاصر توّجت مسارا من المبادرات والتجارب التنظيمية النقابية الجنينية والواعية منذ انطلاق أولى الإضرابات الاحتجاجية العمّالية في 1911 حتّى انبثاق نقابات عمّال الرصيف والنقل والمناجم والتعليم إلى البذرة التنظيمية الأولى للنقابة التونسية الجامعة العامة لعموم العملة التونسيين على يد محمّد علي الحامي ورفاقه ثمّ الجامعة الثانية مع بلقاسم القناوي ورفاقه وصولا إلى الاتحاد العام التونسي للشّغل مع الشهيد الوطني والنقابي الزعيم فرحات حشّاد ورفاقه.

لقد وفّر تأسيس الاتحاد قوّة تنظيمية واجتماعية لخوض معركة التحرّر الوطني ودحر المستعمر كما كان بِرُؤَاه الوطنية الاستشرافية سندا قويّا في بناء الدولة العصرية وفق برنامج اقتصادي واجتماعي أعدّه خيرة الكوادر النقابية وكان إطارا قادحا لكثير من الحركات الاحتجاجية الشعبية والاجتماعية ولمسار النضال الديمقراطي والدفاع عن الحقوق والحرّيات وآخرها الإسهام الفاعل في ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي وفي تثبيت الملامح الكبرى لمرحلة الانتقال الديمقراطي ومرافقة تطوّراته المختلفة.

تمرّ بلادنا بظرف دقيق هو الأصعب في تاريخها، إذ ارتفعت فيه وتيرة التجاذبات والصراعات وتصاعد منسوب العنف السياسي ممّا خلق أزمة سياسية حادّة هي من الصعوبة بمكان حتى صار تفكيكها ومنعها من الاندفاع إلى الفوضى والعنف أمرا معقّدا وبات إضعاف الدولة سياسة ممنهجة وصارت فيه آفاق التجاوز معقّدة إن لم تكن مسدودة. وقد انعكست هذه الأزمة السياسية غير المسبوقة على العديد من المجالات ومنها خاصة المجالين الاقتصادي والاجتماعي المتردّيين أصلا في غياب التصوّرات والبرامج والحلول ونقص حادّ في الكفاءة لدى صانعي القرار. وقد فاقمت أزمة كورونا، هذا الوباء العالمي الفاتك، من الأزمة وزادت ضغوطات لوبيّات الفساد والاصطفافات الخارجية لعدد من النخبة السياسية الحاكمة في تعميقها.

وأمام تعمّق الأزمة وارتفاع منسوب التوتّر وانتشار خطاب العنف والكراهية وغموض الأفق السياسي وفي ظلّ عدم الاستقرار الحكومي والذي تجلّى هذه المرّة في  التعديل الوزاري الأخير الذي أنهى ما ادّعته هذه الحكومة من استقلالية عن الأحزاب تحت ضغط حزامها السياسي المصرّ على احتلال مواقع في الحكم، فإنّ الاتحاد العام التونسي للشّغل، تجانسا مع دوره الوطني وانسجاما مع مبادئه وتكريسا لانتمائه إلى هذا البلد العزيز، قد تقدّم منذ شهر أو يزيد بمبادرة شاملة إلى رئيس الجمهورية تحتوي على تشخيص للواقع وتحدّد مضامين الحوار وتضبط آلياته وما يتعيّن التوصّل إليه من خلاله،  من أجل رؤية بديلة وقطعا للطريق أمام التغوّل والانجرار إلى مربّع العنف ورفضا للصراعات الهامشية التي أسقطت من حساباتها الملفّات الوطنية ومشاغل التونسيات والتونسيين وتطلّعات شباب تونس الثائر ضدّ التهميش والحيف والاستبداد، مبادرة أرادتها هياكل الاتحاد إنقاذا لتونس دون سواها وفرزا عميقا بين من يؤمنون بقيمها الجمهورية والمدنية والاجتماعية وبسيادتها المطلقة على ترابها وثرواتها وبنبذ العنف ومعاداة الإرهاب وبين من يعادون أي توجّه ديمقراطي وشعبي واجتماعي ويحرّضون على التقاتل ويمارسونه في كلّ المنابر والساحات والمناسبات.

ونحن نحيي هذه الذكرى العزيزة علينا فإنّنا نسجّل في ظلّ اتّساع انتشار جائحة الكوفيد في مرحلتها الثانية تخبّطا في التعاطي مع الوباء وتداعياته الصحّية والاجتماعية والاقتصادية، في غياب رؤية استراتيجية شاملة تُحسن إدارة الأزمة سواء ما تعلّق منها بالوقاية والتوعية والتكفّل بالمرضى وتوفير العلاج والمعدّات والإطار الصحّي أو ما تعلّق بالاستعداد لاقتناء التلاقيح وتحضير حملات التطعيم وأولويات المنتفعين به وسبل تعميمه مجانا على سائر المواطنات والمواطنين إلى جانب وجوب اتّخاذ إجراءات اجتماعية داعمة عاجلة لصالح مختلف الشرائح المتضرّرة في أجورها ومواطن أرزاقها وتعطّل مصالحها. وقد وجب الآن تدارك هذا التخبّط ومراجعة الاستراتيجية الصحية حول الجائحة والإسراع بوضع روزنامة واضحة لتجاوز المحنة سواء من أجل كسر حلقات العدوى ومواصلة حملات التوقّي أو بتوفير مصل التلقيح وتعميمه على كلّ التونسيات والتونسيين بتكفّل الدولة بعيدا عن لوبيات الاحتكار والفساد.

تعود علينا الذكرى الخامسة والسبعون لتتزامن مع ما نسجّله من تدهور رهيب لأوضاع الشغّالين وعموم الشّعب، فقد تدنّى مستوى دخل الفرد والعائلة وتدنّت معها مستويات التغطية الاجتماعية وتردّت معها الخدمات الاجتماعية، من تعليم وصحة ومياه وسكن ونقل وتعمّق الفقر وارتفعت نسب البطالة وتضخّمت موجة طرد العمّال وغلق المؤسّسات في القطاع الخاص لتتضرّر شرائح عمّالية كثيرة وجدت نفسها وعائلاتها بلا دخل وبلا حماية اجتماعية في ظلّ إهمال فضيع من الدولة وتهرّب مخز من  بعض أرباب العمل الذين تخلَّوْا عن مسؤولياتهم الاجتماعية تجاه العمّال وعمّقوا بذلك مظاهر الإقصاء والتهميش وهشاشة الشغل.

وقد توسّعت بؤر التهميش ومسّت فئات واسعة جديدة في ظلّ الارتفاع الجنوني للأسعار وتنامي المضاربة والاحتكار والتهريب وتدهور الخدمات الاجتماعية وتهرئة المرفق العمومي وتزايد الأعباء المثقَّلة على كاهل الأجراء وسائر الفئات الشعبية المفقّرة التي تدهورت مقدرتها الشرائية بما يفوق 30% مقارنة بالسنة الفارطة ولم تعد هذه الفئات المهمّشة ومنها المتقاعدون والمعطّلون عن العمل وفاقدو السند ومنعدمو الدخل قادرة على تحمّل هذه السياسات الفاشلة فانتفضت عليها في الكثير من الجهات والقطاعات وعبّرت عن غضبها بكلّ أشكال الاحتجاج الممكنة من اعتصامات وإضرابات ومظاهرات. وإنّ الاتحاد اليوم يجدّد وقوفه إلى جانب مطالب شعبه في الشغل والحرية والكرامة وتبنّيه لكلّ احتجاج سلمي لا يعطّل مصالح الناس ولا يضرب مكتسباتهم وأملاكهم ولا يفضي إلى الفوضى والتخريب. ويطالب الحكومة بمراجعة جذرية لسياسة الأسعار وبالتحكّم في التضخّم وفي تدهور قيمة الدينار وبدعم عاجل للمرافق العمومية من مستشفيات ومؤسّسات تربوية وجامعية ووسائل نقل وغيرها في انتظار إصلاحها وإنقاذها، كما يدعو الحكومة وسائر الأطراف الاجتماعية الممثّلة لأرباب العمل إلى الإيفاء بتعهّداتها بانطلاق جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية في جانبيها الترتيبي والمالي في القطاعات العمومية والخاصّة وتطبيق الاتفاقيات المبرمة مع القطاعات والجهات بعيدا عن سياسة التسويف والمماطلة.

تحلّ الذكرى الخامسة والسبعون ومهمّات كثيرة تطرح على الاتحاد على الصعيد الدّاخلي في اتّجاه تطوير الهيكلة وتحديث الآليات ومزيد تمتين الوحدة وتطوير الأداء بالتخطيط على المدى القريب والمتوسّط والبعيد استشرافا لمستقبل العمل النقابي وحتّى يكتمل قرن من التأسيس يكون فيه النقابيون على أتمّ الاستعداد لمجابهة تحدّيات التنظّم والانتساب والفعل الاستباقي وتطوّر عالم العمل والتغيّرات الإقليمية والدولية الحاصلة في العقود القريبة القادمة. ولئن أثّرت ظروف الجائحة على امتداد سنة 2020 في خفض وتيرة النشاط النقابي من تكوين وتدريب واجتماعات تأطيرية وندوات فكرية إلاّ أنّها لم تجعل النشاط النضالي العام يخبو رغم حملات الشيطنة ومحاولات التجريم التي دأبت عليها بعض الأطراف المعادية للعمل النقابي ولحقوق العمّال.

واليوم وأكثر من أيّ وقت مضى يحتاج النقابيون إلى رصّ الصفوف وتعزيز الوحدة لمجابهة أعداء يتكالبون على الاتحاد توهّما من هؤلاء في القدرة على تدجينه وضرب استقلالية موقفه وقراره أو رغبة في تحديد مربّع تحرّكه وإضعاف فاعليته. ولمّا كانت الوحدة النقابية مطلوبة فينبغي أن تبنى على مضامين واضحة وعلى احترام قوانين المنظّمة والانضباط إلى قرار هياكلها الأغلبية واحتكاما لسلطات قرارها وهي بلا جدال كانت وستظلّ عناصر قوّة الاتحاد العام التونسي للشّغل منذ التأسيس.

تمرّ اليوم الذكرى الخامسة والسبعون وقد أوغلت آلة الكيان الصهيوني في التنكيل بشعبنا الفلسطيني واستباحة أراضيه وانتهاك تاريخه وتراثه، مقابل تهافت بعض الأنظمة العربية وهرولتها إلى التطبيع مع هذا الكيان العنصري البغيض برعاية أمريكية، وإنّنا بالمناسبة ندين التطبيع والأنظمة القائمة به ونجدّد المطالبة بشنّ قانون تونسي يجرّمه وندعو إلى توحيد الجهود للدفاع عن الحقّ الفلسطيني والتعريف بقضيّته وتعبئة الرأي العام الوطني والدّولي للوقوف نصرة للشعب الفلسطيني الباسل.

كما نجدّد موقفنا الداعي إلى وقف الاقتتال في ليبيا واليمن وسوريا وتوحيد القوى لمقاومة الإرهاب ومنع التدخّل الأجنبي طريقا لتحقيق الاستقرار والتقدّم وحقّ تقرير المصير.

الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل 

نور الدين الطبوبي 

Skip to content