الافتتاحية

في ذكْرى عيد الجمهورية 63: النّظام الجُمْهُوريّ فعلٌ مواطنيُّ مستمرٌ

بقلم: ناجي الخشناوي

تَاريخيًّا أُطْلقَ أولُ مرَة اسم الجمهورية على نظام الحُكم الذي تأسّس على أنقاض الحُكم الملكيّ لدى الرومان سنة 509 قبل الميلاد، وقد سُمّيَ ذاك العام “عام المجد”، لأن طبيعة الحكم الجمهوري غيَّرت حياتهم السياسيّة والاجتماعية والقانونية طيلة ما يربو 450 سنة كاملة قبل أن تتشكّل الإمبراطورية الرومانية لاحقا حوالي سنة 27 قبل الميلاد، وارتبط الحكم الجمهوري بمفهوم المدينة أو الدولة، ومن أهم تعبيراته، الصراع المستمر بين “العامة” والطبقة الارستقراطية أو “الأشراف”، من أجل تحقيق المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والتحرّر من عبودية الدّين والتّوزيع العادل للثروة، لتنشأ سنة 451 أول مدوّنة قانونية رومانية تم تدوينها فيما يُعرفُ بالألواح الإثنا عشرة.

ومن قوانين تلك المدونة نذكر خاصة حق زواج العوام من بنات الأشراف وحقهم في تحمُّل الوظائف في الدولة في إطار التدرّج الوظيفي الذي كان يُسمّى سُلَّمُ الأمجاد لتتشكل بعد زمن طويل طبقة اجتماعية جديدة، واصلت صراعها على مطالب إضافية لعل أهمها الديمقراطية التي ارتبطت تاريخيا بالثورة الفرنسيةّ سنة 1719 وربما نستحضر هنا المفهوم البسيط الذي وضعه الفيلسوف ورجل الدولة الفرنسي جان بودان عندما وصف الجمهورية بأنها “حكومة حق، حكومة قويمة لعدد من الأسر ولمَا هو مشترك بينها، مع سلطة سيّدة”.

وتُتَوَّجُ الجمهورية الديمقراطية في تحقيق فضيلتها السياسية الأكبر، المُواطنة، تلك التي منها تنطلق وتنتهي جميع الحقوق والحريات، ومنها المساواة وحق المشاركة في الشأن العام وحرية التفكير والتعبير والمعتقد وتكافؤ الفرص وحق التّنَظّم والتظاهر وغيرها من منظومة الحقوق والحريات التي يتمتع بها كل المواطنين على حد السواء ودون تمييز، وهذه الفضيلة، المواطنة، تم افتكاكها وتكريسها في تونس منذ إسقاط النظام الدكتاتوري في ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011.

ويعود تأسيسُ الجمهورية في تونس تحديدا إلى يوم  25 جويلية من سنة 1957 حيث تخلّص الشعب التونسي من الحُكم الملكي الحُسَيْني الذي امتد قرابة 252 سنة، عندما صوَّتَ 90 نائبا من أصل 98 من نواب المجلس القومي التأسيسي على إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية الذي تلاَ نصه جلولي فارس رئيس المجلس القومي التأسيس، وتم تكليف الحبيب بورقيبة برئاسة الجمهورية التونسية في انتظار تنظيم أول انتخابات رئاسية،  التي جرت لاحقا يوم 08 نوفمبر 1959 ليتواصل العهد الأول من النظام الجمهوري إلى غاية يوم 27 جانفي 2014 تاريخ المصادقة على الدستور التونسي الجديد وتدشين الجمهورية الثانية التي مازالت تواصل تثبيت لبناتها وأسسها ومازالت القوى التقدمية، الحقوقية والنقابية والثقافية والنسوية والمدنية تواصل نضالاتها اليومية من أجل جمهورية المواطنة.

إن من بين أهم مقوّمات نجاح أي نظام جمهوري تحقيقُ السّلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، باعتبارهما المؤشران الضامنان لتحقيق الفعل المواطني والذي يتجلّى بدوره من خلال تحقيق الحقوق المدنية والحقوق الاقتصادية والحقوق الاجتماعية والحقوق الثقافية، غير أن تونس، تونس الجمهورية الثانية، ما يزال مسارها الجمهوري متعثرا ومرتبكا، وفي بعض الأحيان منتكسا، ويعود ذلك أساسا إلى أن العشرية الأخيرة لم تتخلّص فيها النُّخبُ السياسية والثقافية خاصة من التّجاذب الإيديولوجي، أو تحديدا مازال المسارُ الجمهوري واقعا في فخّ الاستقطاب الأيديولوجي الذي نَصَبَهُ الإسلام السياسي ممثلا في الأحزاب السياسية الدينية وفي الجمعيات والمنظمات الدَّعَويّة.

لقد تجاوزَ التّشخيصُ العام لمسار الانتقال الديمقراطي وبناء مقومات الجمهورية الثانية، ثنائية الثورة والثورة المضادة منذ السنة الأولى، لنجد أنفسنا متورّطين تدريجيا، بل مدفوعين دفعا إلى ثنائية الدولة المدنية أم الدولة الدينية، وقد تغذّت هذه الثنائيّة خاصة من خلال سَطْوة الخطاب الديني ومنه الخطاب المتشدد الذي فتح باب الإرهاب في تونس على مصراعيه لتشهدَ الجمهورية التونسية أشكالا جديدة من الاغتيالات السياسية لعل أبرزها اغتيال الشهيد شُكري بالعيد والشهيد محمد البراهمي الذي تم اغتياله يوم 25 جويلية 2013، يوم عيد الجمهورية وفي ذلك رمزية كبيرة، رمزية مُثْخَنَةٌ برفض مقوّمات النّظام الجمهوري ومبادئ الدولة المدنية من قبل التّنظيمات الحزبية والجمعياتية التي تمكّنت من مَفَاصل الدولة وانتشرت في الفضاء العمومي.

إنّنا اليوم ونحن نحتفلُ بالذّكرى الثالثة والستين لقيام النظام الجمهوري في تونس، نجد أنفسنا في وضع لا نُحسدُ عليه، فتونس اليوم مقارنة مع باقي الأنظمة العربية باتت تمثّل نموذجا فريدا في تحقيق مكتسبات الدولة المدنيّة والنّظام الجمهوري رغم ما يعتري هذا المسار من تعثرات وانتكاسات متتالية، لعل آخرها الانتهاكات الجسيمة التي طالت حق التعبير وحق التفكير من خلال سجن وإيقاف وملاحقة الإعلاميين والمُدوّنين والكُتّاب وتهديد الحقوقيين والنقابيين، وفي نفس الوقت ظل المنوالُ الاقتصادي والاجتماعي منوالا غير متوازن وغير منسجم مع مطالب الثورة، بل هو منوال مختلٌّ وغير عادل كرّستهُ السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة التي توغّلت بعيدا في سياسة الارتهان إلى الجهات المانحة مما أدى إلى ارتفاع مستويات التضخّم والمديونيّة وتزايد التّفاوت بين الجهات وتواصل الهجمة الشّرسة على القطاع العام.

إننا اليوم ونحن نحتفل بالذكرى 63 لقيام الجمهورية، وفي خضمّ هذا الوضع السياسي الغائم والضّبابي، لا خيار لنا إلا بالايمان بأن النّظام الجمهوريّ هو فعل مواطنيٌّ مستمرٌ في الزمان، وبأننا مَجْبُولُونَ على مواصلة النّضال من أجل تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق جميع الحريات، للمرور إلى الجمهورية الثالثة، تلمك التي  تتطلبُ مراجعة النظام السياسي الحالي ومراجعة القانون الانتخابي بما يخدم المسار الديمقراطي، واستكمال إرساء الهيئات الدستورية وضمان استقلالية القضاء وتفعيل ما جاء به الدستور من تمييز إيجابي للجهات الداخلية ومن حماية وتكريس للحريات العامة والفردية.

Skip to content