ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

لا إنسانية الا بالحرية وليس فوق الحرية فوق ولا تحت الحرية تحت.

حمادي بن جاب الله لـ"المدنية " :

منية العرفاوي
صحفية

السيادة الوطنية، ذلك المصطلح المتوهج بالمعاني والمفاهيم، هل يمكن اختصاره او حصره في معنى بعينه يختزل كل ثقله الحضاري والتاريخي والسياسي والاقتصادي والمواطني-الاجتماعي ؟ .. في هذا الحوار لموقع “المدنية”  يأخذنا د.حمادي بن جاب الله أستاذ الفلسفة الحديثة وفلسفة العلوم في رحلة تفكيك مفهوم السيادة الوطنية في بعدها الفلسفي، الحضاري والقيمي والأخلاقي وبعدها الديني كذلك.. ويجيب على السؤال الذي تحول في تونس الى هاجس بعد إجراءات 25 جويلية ومفاده كيف تحافظ تونس على سيادتها الوطنية في ظل هذه المتغيرات السياسية العميقة.

كمختص في الفلسفة المعاصرة لو تقدم لنا تعريفا اومفهوما من وجهة نظرك للسيادة الوطنية ؟

– في تقديري أن مفهوم ”السيادة الوطنية ” او ”سيادة الشعب ” او سيادة الدولة ” لم يوجد –تاريخيا – الا في العصر الحديث . ونشأته دالة على تحول تاريخي –ابستيمولوجي كبير في الفكر الإنساني اذ نقله من تأسيس شرعية ”الحكم” او ”الدولة ” على عقيدة ”الاستخلاف الإلهي” او ”الحاكمية الإلهية” الى تأسيس الحكم على ”الضرورة الطبيعة ” (هوبس) او ”الارادة الشعبية”(روسو – لوك – كانط ).

أما نظرية الخلافة فقد نشأت عند الفراعنة وهي على أوضح ما تكون في وصايا الإله آمون الى رمسيس الثاني حين جعله خليفة له على عرش مصر ليحكم بين الناس بالعدل حتى تكون مصر خير أمم الدنيا وتنشر السلام في العالم كله .وذات الوصية قدمها الإله البابلي ”مردوك” او” أنليل ” لحمورابي حين جعله خليفة له على بلاد الرافدين ليحكم بالعدل آمرا اياه “بأن يأخد للضعيف من القوي وان يعنى باليتامى و الارامل”’ كما هو بيّن في ديباجة دستر حمورابي.ثم أن اللاهوت اليهودي والمسيحي والاسلامي لم يخرج عن هذا المنهج الفرعوني البابلي :تاسيس الحكم على الاستخلاف الالهي واعتبار العدالة شرطا قيام الحكم وشرط دوامه كما تبلور ذلك لاحقا في جمهورية افلاطون الذي جعل لكتابه هذا عنوانا فرعيا هو”في العدل” وهو ما سيردده ابن خلدون حين يعتبر مثل جميع من سبقه ”العدل اساس العمران”.غير ان أحدا لم يتساءل منذ الفراعنة حتى القرن السابع عشر عن مدى استقامة فكرة العدالة في مجتمعات عبودية كالمجتمعات اليونانية او الإبراهيمية ، اليهودي منها والمسيحي والمسلم .فلا فرق أصلا بين ما جاء في نظريات الحكم عند قدماء المصريين و العراقيين ،وما نقرأه اليوم في ما كتب المودودي في ”تدوين الدستور الإسلامي ” مثلا او سيد قطب في ”معالم على الطريق” ليس الا استردادا سمجا للاستخلاف (Lieutenance (الفرعوني والبابلي واليهودي والمسيحي) Vicariat (.خلافا للمذهب الفرعوني ’بنا العصر الحديث نظرية الحكم على فكرة الحرية باعتبارها شرط العدل بجميع معانيه وبصرف النظر عن العقائد الشخصية .فالإشكال السياسي يطرح ضرورة وبذات الحدة حتى حين لا يؤمن احد بوجود الاله (Etsi Deus non daretur كما كان يقول غروتيوس Grotius وهو من كبار علماء الكنيسة فضلا عن انه يعتبر حتى اليوم من أهم مراجع القانون الدولي .ومعنى مقالة غروتيوس الارتباط بين اللاهوت والسياسة حتى تكون الإرادة الإنسانية الحرة في شكليها ،الفردي والجمعي , الركن الأوثق والأوحد .كما نتبين ذلك خاصة عند روسو في العقد الاجتماعي .وبذلك تكتسي فكرة ”السيادة” معنى غير مسبوق تاريخيا وابستيمولوجيا .انها الحرية في جميع معانيها بحيث لا سلطان على الفرد ولا على الأمة أو الشعب إلا سلطانها على نفسها.

ما هو البعد القيمي والأخلاقي لمفهوم السيادة الوطنية ؟

في تقديري أن المعنى الأول هو الاعتراف بالانسان مصدرا لكل تشريع وكل سلطة حتى يخرج من وضع ”القاصر ” او ”الرعية” المحتاج دائما الى ”انا أعلى” يحكمه ، سلطة خارجة عن إرادته   تعد أنفاسه، إلى وضع ”الراشد” وبالتالي ”المواطن ” أي الإنسان المعني كليا بالاضطلاع بمسؤولية وجوده الفردي والاجتماعي ، فلا يصدر في أفعاله الشخصية الا عما يمليه ضميره ولا يطيع في المجتمع الا من اختاره إراديا لحكمه .وهو ما نسميه اليوم الديمقراطية لذلك كانت الديمقراطية النظام الاجتماعي –السياسي الوحيد الذي يكون فيه الإنسان أنسانا على خلاف كافة الأنظمة التي عرفتها الإنسانية قاطبة منذ قدماء المصريين وقدماء العراقيين .فلا إنسانية الا بالحرية وليس فوق الحرية فوق ولا تحت الحرية تحت.

في اعتقادك ومن خلال تصريحاته هل ترى ان لرئيس الجمهورية قيس سعيد  نظرة مختلفة او خاصة به بالنسبة للسيادة الوطنية وخاصة بعد اجراءات 25 جويلية ؟

أميز تمييزا واضحا بين قيس سعيد قبل 25 جويلية و بعد تلك البادرة التاريخية التى ارتقت به –مبدئيا- الى مصاف محرر تونس من الاستعمار الداخلي وتأكيد السيادة الوطنية التي عبث بها الاسلام السياسي خاصة بحكم عدم ملاءمتها لمشروعه الظلامي الهادف الى احياء ”’الخلافة ‘ الفرعونية-البابلية وهو يقدمها في غباء ومكر معا نظاما إسلاميا غير إن ما أخشاه اليوم – و.قد عبرت عن مخاوفي تلك مباشرة بعد إعلان العمل بالفصل 80   – أن تنتهي تلك البادرة الصحيحة إلى فشل ذريع لا أحد يقدر اليوم عواقبه الوخيمة -بحكم حرص غير مفهوم على التفرد بالحكم و ترذيل الجميع ’احزابا ومنظمات ومثقفين.

ومما يزيد من مخاوفي تكاثر تهريج الداعين باسم الرئيس الى ما يسمى ” البناء القاعدي” .يقيني ان الشعب التونسي خرج يوم 9أفريل 1938 ليطالب ببرلمان تونسي ”لا ليطالب بلجان شعبية هي خيانة لدماء الشهداء ’ وهي –ولا ريب – الفوضى السياسية ذاتها المؤذنة بمزيد التخريب .والحق ان المطلوب اليوم هو ببساطة الارتقاء بالدولة الوطنية دولة الاستقلال التي أسسها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة رحمه الله إلى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية .ولن يكون ذلك اليوم ممكنا إلا بالتعاون الوثيق – في إطار ائتلاف اجتماعي سياسي- مع التنظيمات الاجتماعية الأساسية وفي مقدمتها اتحاد العمال والأعراف والنساء والهيئات المهنية القائمة وكذلك الأحزاب الوطنية إلى لم تشارك في تخريب الوطن وذات حضور اجتماعي لافت مثل الحزب الحر الدستوري.

قلت مرارا بعد 25 جويلية ” أن الأسوأ وراءنا ”. ويجب أن يكون الأمر كذلك .غير أني أعي أن مخلفات ”العشرية السوداء” لم يمسسها احد حتى اليوم. والأمل معقود –مع ذلك – على أن نشهد قريبا بوادر حكيمة تنجز ما وعدت به بادرة 25 جولية التاريخية بدءا بانقاذ مدرسة الجمهورية من محاولات الاغتيال الذي تعرضت له خلال العشرية المنصرمة لاسيما من قبل ”القرضاويات والقراضويين ”وأعداء تونس أجمعين.

Skip to content