تعب الجمهور حيث استهلكت “جماعات” مشاريع الثورة وحبستها في شعارات واحتفاليات، وحولتها أرصدة لـ”الاحتطاب” السياسي. باسم الثورة هتف من حَكم، وباسمها تعلل من أخفق ومن أعاد إنتاج الفشل.
وبعد مرور أكثر من عقد على حدث جانفي 2011، نُحصي أصنافا جديدة من النخب السياسية، حيث عرفنا نخبا “شبه السياسية” و”شبه الثورية” و”منتحلة الثورية” و”المتئكة على الثورية”، وأيضا “المعادية للثورة” و”ممجدة الدكتاتورية النوفمبرية”، وأيضا تلك “الشعبوية” وكلها تدعي امتلاك الحلول وتعرف ما يُصلح حالنا وما يُخرجنا من الأزمات إلى الفرج. والحال أن من يمكنه ذلك مستقيل أو مهزوم أو منتظر بلا أفق، وبعضهُ يسعى في الممكن بأقلّه، أو بما أمكن من نضال مدنيّ دفاعا عن الحريات المهددة ضدّ تشريعات زجريّة وممارسات التضييق على المخالفين والمُنتقدين.
وبعد خلل العشر الأُول، جاءت العشرية الجديدة بلا بوصلة ولا مسطرة، وبكثير من الخُطب. واختفى التونسيون بين مشاغل يومهم وخلف قُوتهم، أغلبية عازفة على الاقتراع وعن الاحتجاج وعن المساءلة والمحاسبة، وكأنها تريد بالأمر أن يذهب إلى آخر آخره ثم يكون النظر.
والثابت أننا نعيش أحد أخطر حالات وفترات الارتباك في تاريخ تونس المستقلة، حيث لا مشروع ولا توجه واضحا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في غياب مشروع للسلطة السياسية الحاكمة مما أصاب مؤسسات الدولة بالعطالة.
***
لا يجب أن نسهو عن هذه المواعيد الكبرى، وعلينا أن نجعلها مناسبات للتفكر والتمعن فيما عليه البلاد، وتدبّر ما يمكن من سبل التغيير. كما أنّه من الضروري خلق قوى سياسية ومدنيّة جديدة من أجل الخروج من الدوائر القديمة التي أُغلقت، وحتى يعود إلى الناس الأمل في الفعل المُشترك الجماعي وفي المشاركة الفاعلة في اختيار الممثلين في كل المؤسسات التي تُدير الدولة.
وعلى القوى السياسية التقليدية أن تُقيّم أسباب فشلها وانصراف الجمهور عنها، وتضع برامج حقيقية تستجيب للمرحلة الراهنة، وتتوجه إلى الناس فيما يهمّهم.
والثابت أنّ غياب القوى السياسية التقليدية، وتراجع حضورها، خلق فراغا كبيرا خاصة أننا نفتقر إلى قوى جديدة ومبادرات. والادعاء بعدم جدوى الأحزاب مسٌّ بجوهر المسألة الديمقراطية، ولن تكون التمثيلية الشعبيّة بديلا للفعل السياسي المُنظم الذي يضمن تفاعلا وصراعا ايجابيا حول البرامج والتصورات ومُنافسة تمكن من فرز حقيقي. وإنّ فشل تجارب حزبية لا يمكن أن يكون مُبررا لإفراغ الساحة من القوى السياسية وبناء مؤسسات الحُكم بالتوجه الحالي الذي لا ضابط له.
***
تأتي هذه الذكرى ونحن أبعد عن لحظتها الفارقة، ودون تحقيق الأهداف التي من أجلها انتفضت التونسيات والتونسيون، بل إن مكاسب هامّة على غرار حرية التعبير أصبحت مُهددة بشكل أخطر مما كانت عليه زمن الدكتاتورية النوفمبرية. ولم نتوقع مُطلقا أن نعود إلى إحصاء المعارضين والصحفيين والمواطنين داخل السجون بسبب التعبير عن الرأي، كما أنه لم ننتظر أن نشهد مسّا بالحق في المحاكمة العادلة وتجاوزا للعدالة والقانون وقد وُظّف القضاء لضرب الحريات.
هذه الذكرى هي الأهمّ، فخلال عام واحد تراجعنا عقدا، ولا تشفع للحاكم نواياه وما يُبديه من اجابية كلما أطلق حملة ضدّ الفساد أو عبّر عن دعم الفئات المُستضعفة أو قال أنه حام للقطاع العام أو السيادة الوطنيّة. وهذه أمنيات أجيال من التونسيات والتونسيين لكنهن/م أرادوها أن تكون ضمن نظام يحترم المسألة الديمقراطية والحريات العامة والفردية، وتضطلع بها مؤسسات قوية ومُتماسكة للدولة، وتكون ضمن استراتيجية وطنية واضحة.
***
لزاما على كل القوى الوطنية أن تعمل على خلق بدائل جديدة في إطار من العمل المدني والسلمي والمواطني من أجل إصلاح المسار فكبُر مقتا عند الثورات أن تُنسى مواعيدُها، أن تفتُر الحماسة لمسارها وأن تُحال جذوتُها رمادا.
سمير بوعزيز