ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

البناء الجديد.. تصور هيكلي دون مضمون سياسي

رضا التليلي لـ"الجريدة المدنية" :

منية العرفاوي
صحفية

لم تكتف لحظة 25 جويلية بإنتاج واقع سياسي جديد أو مشهد مختلف في إدارة الدولة وتسيير الشأن العام بل أنتجت كذلك مصطلحات ومفردات جديدة من قبيل البناء الجديد والديمقراطية القاعدية باتت محور النقاش العام بين مؤيد ورافض، مفردات تدور حولها كل الأسئلة ونقاط الاستفهام التي ما تزال أجوبتها معلقة على مستقبل ما زال يكتنفه الغموض بشأن المسار السياسي والدستوري المقترح كبديل لمنظومة ما قبل اعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد للتدابير الاستثنائية.

وفي هذا السياق التقينا بأستاذ التاريخ المعاصر والدراسات الجيوسياسية ومؤسس مؤسسة أحمد التليلي لنشر الثقافة الديمقراطية، رضا التليلي، لفهم وتفكيك بعض هذه المصطلحات ومنها البناء الجديد.

البناء الجديد، مصطلح جديد تسلل إلى الحياة السياسية وبات اليوم يؤثث النقاش العام بالبحث والتفسير والتخمين أحيانا بشأن مضامينه وأهدافه.. فكيف تفسّر أو تقرأ انت هذا المصطلح الوافد على المشهد السياسي بعد إجراءات 25 جويلية؟

البناء الجديد هو وصف مادي لهيكل ما.. وليس لمشروع سياسي خاصة في غياب إجابات قاطعة حول أين سنبني وكيف سنبني وماذا سنبني تحديدا.. البناء الجديد في تأصيله التاريخي كمصطلح هي فكرة برزت في بداية القرن التاسع عشر بعد الثورة البلشفية وكان التطلع أو التشوّف وقتها إلى بناء عالم جديد وانسان جديد ولكن تلك اللحظة التاريخية المهمة والتي كان لها تأثير على شعوب العالم بعد ذلك غاب عنها التصور الاجتماعي والثقافي.. لأنه كان يفترض بعد اقتراح أو الذهاب إلى هذا البناء الجديد أن يكون هناك انتاج أو بلورة تصور لمضمون سياسي سيكون إطارا لهذا البناء الجديد.. وليس العكس بمعنى أن تخلق اطارا ثم تبحث له عن مضمون سياسي.

نفهم من كلامك أن هذا البناء الجديد المُبشّر به ليس له مضامين سياسية؟

دون شك.. لأن المقترح هو هيكلة لهذا البناء وليس مشروع أو مضمون سياسي بأفكار واضحة.. المضمون يتبلور عندما يتم الإعلان مثلا على أننا سنذهب إلى ديمقراطية مباشرة وهو مصطلح واضح، له ملامح واضحة يقتضي عدم المرور على محامل الوساطة بين السلطة والشعب من نقابات وأحزاب وهياكل مهنية.

لكن مفسّرو مشروع قيس سعيد اليوم يتحدثون عن ديمقراطية قاعدية؟

ليس هناك ديمقراطية قاعدية، البناء القاعدي هو هيكل وليس محتوى ومضمون، يمكن أن نتحدث عن القاعدية في التنظيم ولكن ما هو المشروع السياسي وما هو المضمون الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والجيوسياسي خاصة بمعنى أين ستتموقع تونس في المستقبل، لأن ذلك سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني والسياسيات العامة للدولة في هذا المجال.. فافتقاد البناء القاعدي للمشروع والمضمون السياسي سيؤدي إلى بناء شمولي ونظرة شمولية للحياة السياسية وتنتهي دائما إلى رئيس واحد وحزب أو قوة سياسية واحدة مهيمنة.

السؤال الأخطر في هذا البناء القاعدي المقترح ماذا سيكون دور الأحزاب والنقابات وكل مكونات المجتمع المدني والهياكل المهنية ؟.. فحتى التجربة التعاضدية كان أحمد بن صالح يقول عنها انها نظام جديد.. أعطيك مثالا، الديمقراطية المباشرة عادة في تصورها للاقتصاد تذهب إلى الاقتصاد التضامني الاجتماعي الذي يعتمد بالضرورة على النقابات والأحزاب والهياكل المهنية لترسيخه وتكريسه على ارض الواقع، لكن اليوم هذا المفهوم ومصطلح الاقتصاد التضامني والاجتماعي يكاد يكون غير موجود بالمرة في الطرح المقدم اليوم من طرف رئيس الجمهورية أو من يناصرونه ويفسرون مشروعه.

لكن رئيس الجمهورية يقول أن مشروعه السياسي هو تنفيذ ما يريده الشعب استجابة الى الشعار الذي رفعه منذ حملته الانتخابية الشعب يريد؟

قد يكون ذلك نوعا من البراغماتية ولكن هذه البراغماتية مستحيل أن تنجح دون مرجعية فكرية وسياسية وتجذّر تاريخي.. مصطلح الشعب هو مصطلح فضفاض، ففي العادة يبرز هذا المصطلح ويتبلور بدقة في الأزمات أو الحروب أو الكوارث ولكن بمجرد الخروج من الأزمة يتحول هذا الشعب الى كتل أو تكتلات وفئات كل منها تدافع عن مصالحها المختلفة عن الأخرى وبالتالي عند الجزم بالجمع بمعنى الشعب يريد فإن ذلك يتحول إلى مفهوم هلامي لا أساس له في الواقع.

ما تم اقتراحه اليوم هو هيكلة جديدة دون اقتراح لا مضامين ولا من سينفذ تلك الهيكلة على أرض الواقع.. خاصة مع الرفض المعلن لمنظومة الأحزاب والتردد المعلن كذلك في التعامل مع الأطراف الاجتماعية وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل.. كان يفترض اليوم أن نفكر باتجاه تأسيس وبناء مفهوم حقيقي لجمهورية ديمقراطية اجتماعية تكون أقرب إلى الواقع ومؤثثة بمضامين سياسية ولكن مع الأسف اليوم حتى عند الحديث عن تغيير نظام الحكم نحن لا نعرف تحديدا أين سنتجه أو ما هو طبيعة النظام السياسي الذي يريده قيس سعيد.. كذلك عند الحديث عن القواعد وعلى البناء القاعدي لم يتبين لنا ما المقصود بذلك تحديدا هل أن هذه القواعد ستكون لجانا شعبية وهل تؤمن هذه اللجان بالطبقية التي تعتبر محركا تاريخي للصراع يؤمن بها كل العالم.

في غياب المضمون السياسي والمشروع فإن هذا البناء القاعدي لن يفعل شيئا الا إعادة انتاج نفس الأشياء ونفس الأخطاء ولكن ربما فقط بمسميات جديدة وتحت غطاء فكري يدعي انه جديد.

هل يمكن اليوم إرساء حياة سياسية متوازنة باستبعاد الأحزاب؟

كره الأحزاب أو رفض فكرة الأحزاب كان من منطلق أن هذه الأحزاب لا تمتلك مضمونا أو برامج قادرة على احداث الفارق وتغيير حياة الناس إلى الافضل فإن البناء الجديد سيفشل أيضا لأنه لا يملك مضمونا حقيقيا.. ومع الأحزاب التي لا يستقيم البناء الديمقراطي دونها لا بد أن تكون للنقابات وللهياكل المهنية موقع وقرار في المسار الجديد بعد 25 جويلية لأن اقصاء النقابات هو اقصاء لركيزة أساسية في النظام الجمهوري الذي يقوم على وسائط بين الحاكم والمحكوم وهذه الوسائط تكون مهنية وسياسية ونقابية ومدنية وكل ذلك يندرج في هذا البناء الجمهوري والديمقراطي.

Skip to content