ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

على تونس أن تُحسن اختيار موقعها في الخارطة الاقتصادية العالمية

الأستاذ منجي السماعلي:

طارق السعيدي
صحفي

يمثل تعطل النمو هاجسا مشتركا لكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وهو أمر مربك لعملية إعادة البناء نظرا لأهمية البعد الاقتصادي في مسار كل بناء جديد. ولأجل معرفة مكامن الخلل في المحاور الكبرى، التقت جريدة المدنية الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي منجي السماعلي الذي أكد أن تونس في حاجة إلى مشروع جامع وخطاب موحد وتشريعات محفزة.

 كيف تقرأ الوضع الاقتصادي في ظل التعثرات الحاصلة والمؤشرات السلبية؟

إذا ما عدنا إلى أبرز الأرقام والمؤشرات التي تحققت خلال السنوات العشر المنقضية سنجد أن نسبة النمو ضعيفة جدا، وذلك لتعطيل أبرز محركات النمو التقليدية للاقتصاد التونسي منها تعطل الاستثمار الخاص والعام وتراجع انتاج الفسفاط وتقهقر أداء كل المؤسسات العمومية. يضاف إلى ذلك تكرر العمليات الإرهابية وضرب السياحة. هذا على صعيد اقتصادي أما على صعيد سياسي فإن المعطلات تمثلت في ما تم اعتماده من سياسات شعبوية. فالانتخابات التونسية قامت كما يعلم الجميع على قاعدة الصراع والتحشيد السياسي دون الاهتمام بالبرامج الاقتصادية وهو ما أنتج حكومات غير معنية بإنجاز الإصلاحات ولم تكن ملتزمة ببرامج اقتصادية أمام الناخبين بقدر ما كانت معنية بالبحث عن التوازنات السياسية.  وفي ظل غياب برنامج فان الرؤية تصبح ضيقة وتضيع معها البرامج والخطط. ولذلك دخلت البلاد في حلقة من التداين دون أن توظف في الاستثمار مما أهدر كل مصادر التمويل وقد ظهرت نتائج ذلك السلوك الآن في ارتفاع نسبة التداين إلى أكثر من 100 بالمائة.

ما رأيك في القول بأنه منوال تنمية جديد هو الحل لدفع النمو والخروج من الأزمة بكل أبعادها؟

قبل الحديث عن منوال تنمية جديد لا بد بداية أن يتم تحديد القطاعات التي ستمثل قاطرة التنمية وتحديد مصادر التمويل. أي أن يتم تحديد القطاعات التي سيتم التركيز على دعمها وتطويرها من حيث التمويل والتشريعات وفي اعتقادي أن كل المعطيات متوفرة والدراسات تناولت بالدرس والشرح مختلف مفاصل الاقتصاد ونعرف جيدا ما يجب الانطلاق في إنجازه دون تأخير كما نعلم جيدا يجب المراهنة عليه.  وبعبارة أوضح أن تحفيز محركات النمو من أجل خلق الثروة تستوجب استراتيجية وطنية أو منوال تنمية يضمن استراتيجيات وسياسات قطاعية من أجل تنمية كل قطاع. كل ذلك وفق تصور رؤية متكاملة وهذا ما ينقصنا لأنه لم يطرح بشكل واضح من طرف الحكومات. وأنا أركز على الحكومات لأن من مسؤوليتها طرح التصورات والخيارات وهناك أمور لا تتطلب الكثير من الجهد مثل تغيير التشريعات والقوانين. فعلى سبيل الذكر يمكن القول أن الجزء الأكبر من مشكل المؤسسات العمومية هو مشكل تشريعي لأن القوانين لا تضمن الحوكمة والتنافسية والدليل على ذلك أن رفع بعض القيود عن البنوك العمومية في إطار عملية الهيكلة مكنها من أن تستعيد مكانتها في السوق وأن تحقق توازنها المالي. كما يمثل تغيير التشريعات عنصرا ضروريا من أجل انهاء تغول الاقتصاد الريعي لفائدة بناء اقتصاد تنافسي.

إذا أنت ترى دورا كبيرا للدولة في عملية الإصلاح الاقتصادي؟

أنا من دعاة فتح حوار مجتمعي حول دور الدولة في إطار الحوار طبعا عن الخيارات الاستراتيجية الكبرى وهو ما سيمكننا من معرفة إذا ما كان التونسيون سيختارون للدولة دور كبيرا في الاستثمار من خلال المؤسسات العمومية أو سيختارون دورا محددا في الأمن والإدارة وخوصصة الاقتصاد. فهذا السؤال حول أي دور للدولة نريد؟ لم يطرح لا بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين ولا حتى في الأوساط الشعبية، وهو أمر لا يستقيم إذ علينا أن ننهي هذا النقاش. والحقيقة أنه تم ارباك الحديث حول دور الدولة من خلال تضخيم عدد موظفي الدولة وكتلة الأجور وغيرها والحال أن الموظفين يتركزون في أربع وزارات كبرى لا يمكن أن نخفض عدد العاملين فيها نظرا لدورها المجتمعي والأمني الكبيرين وهي وزارات التعليم والصحة والأمن والدفاع. يعني أن الفكرة العامة لدى أغلب المتابعين هو أن الدولة عبء على الاقتصاد وهذا الأمر غير صحيح.   

قلنا إن الإشكاليات تتمثل في ضرب محركات النمو وفي غياب تصور وكأننا في حاجة إلى منوال تنموي جديد فما هي ملامحه أو خطوطه العريضة؟

المنوال التنموي هو الخيارات الوطنية القادرة على النهوض بالاقتصاد بغاية تحقيق النمو كل ذلك بهدف تحسين المستوى المعيشي للمواطن في إطار عملية التوزيع.  وفي اعتقادي أن حسن اختيار هذا المنوال الجديد يستوجب أولا أن نحدد موقعنا في الخارطة الاقتصادية العالمية بدقة. فنحن لا نستطيع العيش في عزلة عن العالم. في إطار هذا التموقع الجديد سنحدد القطاعات التفاضلية وهي مفتاح النمو وفق تصور جديد.  ومن الأمثلة على المميزات التفاضلية أن العاملة التونسية هي يد عاملة كفاءة وذات مردودية عالية وهو ما تشهد به المؤسسات العالمية التي لديها فروع في تونس. هذا العنصر يمكن أن يكون نقطة قوة للاقتصاد يرفع من قدرة الاقتصاد على جاذبية الاستثمارات شرط تغيير التشريعات، كما قلت سابقا، من أجل رفع تنافسية الاقتصاد.  ففي اعتقادي أن الدور الأساسي للدولة ليس فقط في الاستثمار وتعديل السوق بل كذلك في خلق الفرص المتساوية وإلغاء النصوص المكبلة للاستثمار. وأنا أرى أن الرئيس قيس سعيد أمام فرصة ذهبية لإعطاء نفس جديد للنمو الاقتصادي عبر تغيير التشريعات وأرجو أن يتم استغلال هذه الفرصة بدل التركيز على الفعل السياسي. وفي هذا الصدد أود الإشارة إلى أن القوانين موجودة وتم تأجيلها أو غض النظر عنها أو التصدي لها مثل الاحكام الجبائية في قانون 2014. هذه القوانين يمكن أن تعيد هيكلة موارد الدولة وان تحل الكثير من الإشكاليات لأن الأرقام الحالية تشير إلى أن 80 بالمائة من العائدات الجبائية للدولة تتأتى من الأجور.

ألا تعتقد أن المخططات التنموية ودور الدولة المركزي قد تجد حاجزا أمامها يتمثل في مطالب الفاعلين الاجتماعيين على مستوى محلي وجهوي؟

إن أثارت النعرات الجهوية قد تمت بغايات سياسية وذلك من أجل كسب جمهور الناخبين وضمان تأييدهم وقد عمد الفاعلون السياسيون إلى العمل على التفرقة والتقسيم بدل الوحدة والانسجام وفي اعتقادي أنه في حال وجود مخططات واضحة فإن التونسي قابل للانخراط فيها وسيتم التنازل عن كل الطلبات التي تحركها نعرات جهوية. وبعبارة أوضح فإن السياسيين خلقوا تشنجات جهوية عبر عمليات الاسترضاء التي قامت بها الحكومات ومن خلفها الأحزاب وأقصد حركة النهضة والنداء ولكن هذا الامر مفتعل ويمكن إذابته في إطار مشروع جامع. فبلادنا الآن في حاجة الى خطاب توحيدي عكس الخطاب السياسي الحالي القائم على التقسيم لأن نجاح الاقتصاد هو نتيجة الانخراط الجماعي في مشروع وطني. وأود التوضيح أن المشروع الوطني الذي تقوده لدولة ليس قائما على الاستثمار العمومي بل قائم على دور مهم للقطاع الخاص والدليل على ذلك أن ما بلغه الاقتصاد الكوري هو نتيجة جهد القطاع الخاص والشركات العملاقة في إطار مشروع وطني وضعته الدولة منذ الاستقلال.  ورغم تشابه الانطلاقات فإن الاقتصاد التونسي فشل في تحقيق التطور لأننا لا ندفع الأمور إلى غاياتها وذلك بسبب متلازمة حنبعل الذي بلغ مشارف روما ولكنه لم يستطع دخولها. فما أود قوله هو أننا الآن في حاجة الى مشروع جامع وخطاب موحد وقوانين تسهل واستراتيجية للتموقع داخل العالم، وهذه مهام القيادة السياسية التي يجب ان تجعل منها اجندا وطنية عبر الحوار الوطني.

Skip to content