“باش يكون قرارك من رأسك لازم خبزتك تكون من فاسك”، مثل مزارعيّ شائع في تونس إستشهد به المنسق العام لمجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية وسيم العبيدي في حوار مع “الجريدة المدنية” لإبراز الترابط الوثيق بين السيادة الغذائية وسيادة القرار، فلا حديث عن سيادة وطنية دون تحقيق سيادة غذائيّة يرتهن بلوغها في تونس بإصلاحات عديدة ذكر العبيدي بعضها.
أيّ علاقة بين السيادة الغذائية والسيادة الوطنية؟
المُتّفق عليه أن السيادة الغذائية تمثّل ركيزة أساسية وضرورية في أفق تحقيق السيادة الوطنيّة بما تمثّله من ممكنات القطع مع كل أشكال الهيمنة والتبعيّة ودعما لاستقلاليّة القرار الوطني وتحديد الخيارات والاستراتيجيّات الضّامنة لمقوّمات التحرّر والانعتاق، ومن جانب آخر لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار شعب ما حرّا إذا كان يعتمد في تأمين قوته من خارج مجاله الترابي خاصة أن الغذاء في مستوى آخر أضحى سلعة من بين كل السّلع المتداولة في أسواق المضاربة العالميّة وآليّة من آليّات الإخضاع والهيمنة.
ويتنزّل مفهوم السّيادة الغذائيّة على عكس مفهوم الأمن الغذائي بما يعنيه من حقّ الشعوب في تحديد سياساتها الزراعيّة في أفق الاستجابة لمتطلباتها الغذائية بشكل مستدام و يراعي خصوصياتها الثقافيّة مع إيلاء الاهميّة لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي في مقابل تحديد صادراتها الغذائيّة، وفي هذا السياق يظهر مثل مزارعيّ شائع في تونس يقول “باش يكون قرارك من راسك لازم خبزتك تكون من فاسك” وهذا اختصار وتجسيد لحكمة المزارعين التونسيين في اختصار مفهوم السيادة الغذائية.
في حالة تونس كيف يُمكن تقييم وضعها على سلّم تحقيق السيادة الغذائية؟
بالنسبة لوضع تونس الحالي وفيما يخص تقييم سيادتها الغذائيّة سيكون من المهم التذكير بانخراط تونس في منظومة التجارة العالمية والتزامها بمقاربة ”الامتيازات المقارنة” وهو ما يعنيه بتخصّصها في أنماط إنتاجيّة بعينها بغضّ النّظر عن احتياجاتها الأساسيّة والمباشرة من الغذاء، وعليه انخرطت الفلاحة التونسيّة في التخصص التدريجي في قطاعات انتاجيّة بعينها كزيت الزيتون والتمور والقوارص والصيد البحري بتعلّة تميّزها وتحكّمها في كلفة الإنتاج لتصبح بذلك من أبرز المصدّرين العالميّين فيها على حساب باقي أنماط الإنتاج الاساسيّة لشعبها كالقمح والشعير واللّحوم الحمراء والبيضاء والحليب، واًصبحت السياسات العمومية تدعم بعض الزراعات الموجّهة للتصدير و المستنزفة لمواردنا المائيّة وهو ما يعرف بالمياه الافتراضيّة.
يكفي أن نذكّر مثلا أن تونس تستورد 70 بالمائة من احتياجاتها من القمح الليّن من الأسواق العالميّة وهو ما يكلّف ميزانيّة الدولة قرابة 2000 مليون دينار، فضلا عن ارتفاع استهلاكنا الداخلي من الزيوت النباتيّة على سبيل المثال في مقابل تصدير زيت الزيتون وانخفاض معدّل استهلاك التونسي لزيت الزيتون من 5 كلغ للفرد سنة 2000 إلى حدود 3 كلغ للفرد سنة 2015. وفي الخلاصة وضع وتصنيف لتونس على سلم السيادة الغذائية ببساطة يكون وفق نسبة عجز الميزان الغذائي.
هل هناك أي إصلاحات هيكلية وتشريعية ضرورية لبناء جديد نحو تحقيق السيادة الغذائية؟
أكيد جدا والإصلاحات عديدة ومتنوعة ولا يمكن تمثّلها بعيدا عن تشخيص حقيقي وموضوعي لازمة الفلاحة التونسيّة، وهي قد تشمل إعادة النظر في مقاربة جديدة لخارطتنا الفلاحيّة لإعادة تحديد وترتيب أولويات إنتاجنا الفلاحي لما يوجّه لإطعام التونسيين والإيفاء بحاجاتهم الغذائيّة الأساسيّة بعيدا عن كل أوهام الصادرات وتلبية احتياجات الأسواق العالمية، وكذلك يُمكن أن تشمل منظومات الانتاج الاساسيّة وإعادة التفكير في مزيد دعم صغار ومتوسطي الفلاحين بصفتهم المنتجين الحقيقيين عبر مزيد مرافقتهم والإحاطة بهم بتوفير ما يحتاجونه من دعم مادي ولوجستي بدرجة أولى ومزيد خلق خطوط تمويل فلاحي ميسّرة.
الإصلاحات يجب أن تشمل كذلك في تقديري إعادة التفكير في استراتيجيات التصرف في الأراضي الفلاحية الدولية الممتدة على مساحة 500000 هكتار و توجيهها نحو دعم الاكتفاء الغذائي والذاتي ومزيد ضمان ولوج صغار الفلاحين إليها وخاصة الفلاحين بدون أرض في مقابل تحوّزها من قبل رؤوس الأموال والتسريع في حلحلة مشكل الأراضي الاشتراكيّة ومراجعة منظومة الأعلاف ومراجعة مجلّة المياه بما يخدم مزيد التصرف الحكيم والعادل في مواردنا الفلاحيّة وتوجيه المياه نحو الفلاحة المعاشيّة على عكس كل بقية الأشكال الإستخراجيّة و الاستنزافيّة ومراجعة الأطر القانونيّة والتنظيمية للهياكل الفلاحيّة المهنية كالشركات التعاونية للخدمات الفلاحيّة ومجتمع التنمية الفلاحية والعمل على دعمها لتتحوّل الى تنظيمات معبّرة وجامعة لعموم الفلاحين.
بتطرّقكم للأطر التنظيمية للهياكل الفلاحية، ما رأيكم في عودة الحديث عن الشركات الأهليّة وما يُمكن ان تمثله من حلول للبطالة وحتى توفير الحاجيات الغذائية ؟
في البداية يجب ان نوضّح ان مصطلح الشّركات الاهليّة قد يكون مطبوعا بترجمة أو خلفيّة شرقيّة فيما يمكن ان نطلق عليه في سياقاتنا المحليّة بمصطلح “الشّركات المواطنيّة” أو “الشّركات التعاونيّة”، ويندرج مفهوم الشّركات الاهليّة في إطار المشروع العامّ للاقتصاد الاجتماعي و التّضامني بوصفة اعادة تفكير في عمليّات الإنتاج الاقتصادي يكون بموجبها الإنسان مركز العمليّة الاقتصاديّة وأن يكون الاقتصاد بمفهومه الانتاجيّ في خدمة الإنسان وليس العكس.
كما ينبني مفهوم الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني على مركزيّة تناقضه مع اقتصاد السّوق الرأسماليّ القائم على الاغتراب والاستغلال، وهنا تظهر بكلّ وضوح الهويّة السّياسيّة للاقتصاد الاجتماعي والتّضامني (ذي خلفيّات اشتراكية طوباويّة) بوصفه نمط إنتاج بديل قائم على مركزيّة الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة وأولويّة الإنسان كقيمة اجتماعيّة على أولويّة تحقيق الأرباح وتكديسها.
ولطالما كان مشروع الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني عرضة للعديد من المحاولات الرّامية إلى التّغاضي عن عمقه الانسانيّ والسياسيّ كما تعرّض أيضا إلى عديد محاولات التوظيف والاسترجاع المفاهيميّ من قبل الدّوائر الرسماليّة أصلا ليصير بذلك شمّاعة لفشل الخيارات السياسيّة والاقتصاديّة الرسميّة ويكون بذلك ملاذا لجمهور المفقّرين والمقصيّين والهامشيّين.. أي أنّ الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني سيكون مجرّد حبّة تخدير تهدّئ من آلام الحيف والتمييز الاقتصاديّ والاجتماعيّ النّاتجة عن السّياسات الليبراليّة المعتمدة.
حيث مثلت التعاونيّات والتّعاضديّات، خلال القرنين التّاسع عشر والعشرين وفي خضم التحوّلات العنيفة التي شهدتها المجتمعات الاوروبيّة بفعل الثّور الصناعيّة وتفاقم استغلال رأس المال، ملاذا حقيقيّة لجماهير العمّال والفلّاحين للتنظّم وتشكيل علاقات إنتاجيّة أكثر افقيّة وعدالة.
بالنّسبة للحالة التونسيّة لا يمكن الّا ان استشهد بتجربة محمّد علي الحامّي التّاريخيّة من خلال إنشاءه لـ”جمعيّة التّعاون الاقتصاديّ” في أفق محاولات تنظيم صغار الحرفيّين التونسيّين ضد تكالب وهيمنة راس المال الفرنسي آنذاك بوصفه قوّة استعماريّة مباشرة، والأكيد انّ كلّ محاولة اسقاطيّة عموديّة لمشاريع ومفاهيم الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني ستكون فاشلة بالضّرورة عند تغييب كل اسسها النظريّة وقيمها الانسانيّة والسياسيّة.
وطرح انشاء فكرة “الشّركات الاهليّة” كان كمحاولة لامتصاص فائض العمالة واصحاب الشّهائد الجامعيّة المعطّلين عن العمل، وان لم تتوفّر الى حدود اللّحظة معطيات كافية تمكّن من تحليل ميكانيزماتها، الّا انّني ساعقّب قليلا على واقع الاراضي الفلاحيّة الدوليّة في تونس بوصفها ارضيّة خصبة لتطبيق مشروع الشّركات الاهليّة، فمن اجماليّ 500000 هكتار اراض فلاحيّة دوليّة في تونس يتمّ استغلال ما مقداره 144000 هكتار من قبل الخواصّ والمتمثّلين في شركات الإحياء والتّنمية الفلاحية (90000 هكتار) و مقاسم الفنيّين (54000 هكتار).
قد تبدو تلك الارقام عاديّة و غير مثيرة للاهتمام و لكن بإلقاء نظرة على تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2018 سنكتشف حجم الإخلالات والتّجاوزات التي تشوب صفقات إسناد هذه الأخيرة فضلا عن جدوى استغلالها وتوجيهها لما يخدم أفق السّيادة الغذائيّة في تونس، وبعد تهاوي تجربة التّعاضد في تونس وتراجع عدد الوحدات التعاضديّة للانتاج الفلاحي من 348 وحدة سنة 1969 الى قرابة 18 وحدة تعاضديّة خلال التسعينات تستغلّ مساحة جمليّة من الاراضي الفلاحيّة الدوليّة بـ 15000 هكتار فقط، وفي افق العمل على تصفية هاته الوحدات تمّ اعتماد مبدإ “عدم امكانيّة تعويض المتعاضدين صلب تلك الوحدات الّا بموافقة سياسيّة” وكان القصد من هذا الإجراء العمل على إفراغ هاته الهياكل من عنصرها البشريّ تمهيد لحلّها، وكانت الحصيلة النّهائيّة لهاته السّياسات الخرقاء ان 11 وحدة تعاضديّة من اجماليّ 18 لا يتجاوز عدد المتعاضدين فيها السّبعة أنفار، فيما لا تحتوي وحدة تعاضديّة بجهة تستور على ايّ متعاضد وتم تشكيل لجنة اداريّة لتسييرها، وفي الخلاصة يظلّ ايّ طرح اجتماعيّ لخلق فرص العمل أسير النّقصان وغياب الموضوعيّة بالضّرورة طالما لم يرافقه تفكير استراتيجيّ في آفاق حلحلة اشكاليات حقّ النّفاذ الى الأرض وتحديد ممكنات استغلالها بما يخدم قضيّة السّادة الغذائيّة والقطع مع كلّ اشكال التبعيّة والهيمنة.
خلال السنوات الاخيرة، أصبح البنك الوطني للجينات يُعلن دوريّا عن إسترجاع بذور تونسيّة، أي أهمية للمسألة في علاقة بالسيادة الغذائية ؟
مسالة البذور مسالة مركزية و دعامة أساسية من دعائم مشروع السيادة الغذائيّة في أفق ضمان استدامة النشاط الفلاحي وتحقيق أهداف الاكتفاء الغذائي، وعلى كل المجهود التي يقوم بها بنك الجينات جيدة ومحمودة ولكن سيكون لزاما علينا التفكير في تسريع تمكين الفلاحين من البذور الاصليّة والعمل على إبراز ميزاتها الانتاجية والصحيّة والسياديّة.