مقالات

البحر مقابل المال

فطين حفصية
صحفي

تهاطل سيل من التصريحات الإيطالية الداعمة لتونس منذ صعود الحكومة اليمينية إلى الحكم في روما على خلفية الوضع الاقتصادي الصعب حد تأكيد وزير الخارجية أنطونيو تاياني أن الجانب الإيطالي على اتصال دائم بالحكومة التونسية فضلا عن تواصله اليومي مع نظيره التونسي نبيل عمار لكن العنوان اللافت في تجسيد “الرؤية الإيطالية 2023″ بشأن تونس هو رمي رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني بـ”ورقة الهجرة غير المسبوقة نحو أوروبا من تونس في حال عدم معالجة مشاكل هذا البلد بشكل مناسب وملائم للظروف”.

أطلقت ميلوني تصريحها – التهديد – عقب قمة لزعماء دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل وإثر لقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتفقا فيه على “الدعوة إلى دعم تونس التي تواجه أزمة مالية خطرة من أجل تخفيف ضغط الهجرة” رغم ما كان يحيط من جفاء بالعلاقات بين روما وباريس، كما جاء ليوضح بشكل لا لبس فيه إلقاء إيطاليا اليمينية لثقلها في تونس بعد أن قامت رئيسة الحكومة الإيطالية بزيارتين ناجحتين تماما إلى الجزائر وليبيا لإعادة ترتيب الأوراق الاقتصادية والأمنية والسياسية مع بلدان جوار الضفة الجنوبية للمتوسط.

وتقوم إيطاليا منذ صعود هذه الحكومة بدور “العراب” مع المانحين وصندوق النقد الدولي الذي دعته صراحة إلى مد تونس بقرض جديد وإبداء مرونة في هذا الاتجاه للإفراج عن حزمة الـ 1 فاصل 9 مليار دولار المعلقة منذ أشهر، لكن هذا الحرص الدؤوب كما هو معلوم يحمل “مخلب قط ” اعتمادا على قراءة إيطالية جيدة للأرقام والإحصاءات الواردة بوصول أكثر من 20 ألف شخص بالقوارب إلى إيطاليا حتى الآن منذ بداية العام الحالي وهو معدل يهدد بكسر الرقم القياسي المسجل عام 2016 عندما وصل إلى البلاد 181436 شخصا معظمهم في قوارب بدائية.

وتعتمد روما في معركة جر أوروبا وتونس على حد السواء لحماية “مياهها الدافئة” على سلاح الوقت الذي كلما مضى كلما كان قاطعا في إضافة أعباء بشرية جديدة على القارة العجوز وتدفق الآلاف الآخرين من عمق الصحراء الإفريقية نحو البوابة التونسية السانحة للعبور، كما تدفع أوروبا دفعا نحو التصدي لما أسماه وزير الخارجية أنطونيو تاياني بـ”جبهة الهجرة التونسية التي إذا انفتحت فلن تغلق باستعداد مئات الآلاف لركوب مخاطر النزوح” عبر حنفية المال بعد أن تقدمت باقتراح رسمي خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي لرصد حزمة مساعدات لتونس تبدأ ب 300 مليون يورو  على الفور للقيام ببعض الإصلاحات ثم إلحاقها بـ  300 مليون أخرى بعد التحقق منها وإعطائها 300 أخرى كسلة أخيرة.

التحذير من موجات هجرة غير مسبوقة ألقى بتحولاته في التعاطي الإيطالي مع الرقعة الإقليمية المقابلة وخصوصا تونس التي باتت  الخاصرة الرخوة فعملية “بحرنا” الأوروبية لم تعط نتائج فعالة وفق التقييم الحكومي الإيطالي للحد من التدفق ما جعل السلطات تضع كل ثقلها الديبلوماسي لأجل جبهة أوروبية تدعم خطة وضعتها لمكافحة الهجرة غير النظامية في البحر الأبيض المتوسط تقوم أساسا على الحد من عمليات المغادرة وضرورة العمل مباشرة مع الجبهة الجنوبية للمتوسط فيما يعرف بـ”خطة ماتي” أو ما يمكن توصيفه باستراتيجية المواجهة الديبلوماسية وتدعيم الحضور الأوروبي في دول الجنوب.

استراتيجية المواجهة 

تضع روما بوضوح تام المال مقابل الحراسة لحدودها البحرية مع الجار التونسي وإن تم تغليف الأمر باتفاقيات أمنية واقتصادية واجتماعية تذهب نحو الهجرة الموسمية والمنظمة وإقامة المشاريع الصغيرة، أما الجديد في تعاطيها مع الملف فيعتمد على مقولة “إن لم نذهب لهم فسيأتون إلينا ” حيث فضلا عن التوجه العام لتعزيز الانتشار الأمني والعسكري والتقني واللوجستي للحد من الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط فإن روما بعملية الضغط المباشرة على المانحين تضيف ورقة ضغط على تونس تسحبها وتعيدها إلى الجيب متى تشاء أو ما يشبه عملية  الابتزاز الناعمة لإبداء حرص أكبر على مراقبة حدودها والالتزام بتشجيع العائدين من “بؤر الهجرة الإيطالية ” ودمجهم مجددا في الدورة الاقتصادية الداخلية.

تعرف تونس التي تستقبل مطاراتها الداخلية رحلات أسبوعية  للعائدين والمرحلين من إيطاليا  الأمر جيدا كما تدرك إدراكا جيدا  أن “عسكرة ” سواحلها وإقامة ذراع أمني حدودي لحماية الجار الشمالي أمر أشبه بمعجزة وأن جعلها عصا الغرب أمام المهاجرين لا يستوي لا واقعا ولا إمكانيات، لكنها تنظر في المقابل بخشية إلى أي هزة مؤثرة في علاقاتها مع شريكها الاقتصادي الأول خصوصا بعد المؤشرات القوية على توسع التعاون الاقتصادي والطاقي مع الجارين الجزائري والليبي، ومن المنطقي أيضا أن تتعامل مع المسألة بقاعدة “مثلما تقوم تونس بدورها فعلى إيطاليا أن تقوم بدورها أيضا” خصوصا أن روما تنظر بعين الشك والحذر من عودة التطرف الإسلامي في شمال إفريقيا إلى الظهور مجددا.

أما الأمر الثاني المهم في العلاقة المصلحية فهو ضرورة عدم إغماض العين عن “المخطط الكبير” الذي قد يذهب أكثر في استراتيجية المواجهة بضغط روما وبروكسل نحو جعل تونس مركزا حدوديا متقدما لحراسة السواحل أو ما يسمى في أدبيات الحركات المناهضة للمهاجرين بالبوابة الحديدية التي لا يمكن تجاوزها نحو الاتجاه المقابل ومن ثمة تركيزها “أرض نشاط” لآلاف المهاجرين بعد أن كانت أرض عبور مقابل حفنة من المال قد تسد جزء من الأزمة الحالية لكنها لن تحل أزمات أخرى مرتقبة… وهنا جوهر التحدي في التحالفات المرنة.

Skip to content