مقالات

الهجرة … أزمة تلد أخرى

فطين حفصية
صحفي

هناك خلط “غريب” أو التباس إن صح التوصيف في تداول ملف المهاجرين الأفارقة والأجانب بين ثلاثة مستويات مختلفة للملف. من الضروري إدراج هذا التفكيك المفاهيمي والإحصائي البسيط قبل إطلاق أي استنتاجات أو أحكام بشأنه وإطلاق “صفارات الإنذار” وخطابات “التطهير” أو التحذير من “كارثة” أو طرح السؤال “الخطير” على شاكلة استفهام رئيس الجمهورية من أين أتوا ؟ والحال أنه من بيده مفتاح السلطة حتى يكون المتابع أمام صورة كاملة وشبه واضحة.

* هناك مهاجرون أفارقة يمتلكون إقامة قانونية في تونس ويصل عددهم استنادا إلى أرقام رسمية إلى 7000 شخص.

* هناك عدد من اللاجئين وطالبي اللجوء ويقدر عددهم بما يزيد عن 9000 أغلبهم من الأفارقة وفق إحصاءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس والتي تأوي عددا منهم في مقرات معلنة ومعروفة وبعلم السلطات التونسية في مراكز خاصة اكترتها للغرض خصوصا في مدنين وتطاوين وجرجيس. أما ما يهم في كل هذه الأرقام فهو وجود 21000 مهاجر إفريقي يقيمون في البلاد بشكل غير قانوني حسب أرقام إدارة الحدود والأجانب إلى شهر مارس 2023 مقابل رقم يصل إلى 50000 وفق تقديرات غير رسمية متطابقة لأواسط العام 2024 وكل هؤلاء “بوصلتهم” الأولية معروفة وهي التوجه شمالا نحو الضفة الشمالية للمتوسط .

المؤكد أن الأزمة في تونس ستتفاقم بناء على معطيات موضوعية لها واقعها على الأرض :

– سبع دول إفريقية تعيش حروبا أو نزاعات أو انقلابات ما يؤشر لحركة هجرة متزايدة ومتواصلة وأدفاق بشرية لن يثنيها سوى الموت عن هدفها ووجهتها.

– السلطات العسكرية في النيجر أسقطت قانونا كان يحرم تهريب الأشخاص عبر الحدود في نوفمبر الماضي ما أدى إلى أدفاق بشرية مهمة انطلاقا من أغاديز في الشمال.

– ديناميكية الهجرة نحو تونس كجسر عبور لم تنخفض على الحدود الشرقية من ليبيا والغربية من الجزائر فالشريط الحدودي الذي يقترب من 1400كيلومتر مع البلدين يوفر مساحة تحرك آمنة لهم ولا يمكن لأي دولة مهما كانت قوتها ضبط هذه الديناميكية.

– خطوط سير المهاجرين اتسعت من القرن الإفريقي إلى الصحراء الكبرى نهاية بالغرب الإفريقي عبر البوابة الموريتانية وتبادلت تونس مع ليبيا المرتبة الأولى والثانية من حيث الأمواج البشرية التي عبرت نحو الضفة الشمالية منذ العام الفارط .

– اليقظة الاستراتيجية التونسية وإن نبه ” عقلها الأمني ” ممثلا في وحداتها المنتشرة على الحدود الجزائرية والليبية من تضاعف عدد القادمين من وراء الصحراء الإفريقية بتسهيلات واضحة من البلدين الجارين منذ جانفي 2021 رغم اختلاف الأوضاع الأمنية بينهما فإن “عقلها السياسي” ظل في موقع الدفاع أمام المصالح الأوروبية الجارفة وضغوط الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم بطبعه والذي يقود بدوره إلى ” طوفان هجرة ” تونسي خالص نحو السواحل الإيطالية ف17000 تونسي وصلوا إيطاليا عبر البحر وفق أرقام وزارة الداخلية الإيطالية للعام 2023 .

– مازاد من مراكمة هذا الملف أن البلاد لها اتفاقيات منفصلة مع بلدان أوروبية لمراقبة الحدود ومقاومة الهجرة غير النظامية فوجدت نفسها في مأزق لأنها مجبرة على إعادتهم من البحر رغم عدم قدرتها على استقبالهم . المخيمات ” العفوية ” للمهاجرين غير النظاميين في المساحات الغابية المنبسطة بغابات الزيتون في أطراف مدينة صفاقس وخصوصا العامرة وجبنيانة واللوزة وحزق بدأت منذ جوان الماضي حين تم دفعهم إلى هناك وليست وليدة اليوم وتكاثر هؤلاء هناك مرده سبب رئيسي وهو أن سواحل هذه المناطق هي نقطة انطلاق

– تبدو الجزائر في ” وضع أفضل ” مقارنة ببقية الدول من الجوار باعتبار عدم دخولها في اي اتفاقيات تتعلق ب” المال مقابل البحر ” بل أنها ألغت اتفاقية الصداقة مع إسبانيا بعد موقف مدريد من قضية الصحراء فتدافعت موجات الهجرة نحو الجنوب الإسباني من أراضيها كما تقوم سلطاتها بدفع عدد من المهاجرين نحو ما تسميه النقطة صفر على حدودها مع النيجر ومالي حيث مثلت الأزمة الديبلوماسية مع النيجر مؤخرا أبرز الأمثلة الحية على رمي ” كرة المهاجرين ” من دولة إلى أخرى .

إن هذه النقطة صفر ظلت فيها تونس الأكثر هشاشة مع جارتيها رغم توصلها الى اتفاق الصائفة الماضية مع ليبيا تم بمقتضاه ” تقاسم ” 300 مهاجر بين البلدين علقا في الصحراء الحدودية ، أما مع الجزائر فإن الوصول إلى مدينة تامنراست بوابة الصحراء الجزائرية يعني أدفاقا كبيرة جديدة نحو تونس رغم ما توصل إليه الاجتماع التشاوري التونسي الليبي الجزائري المنعقد مؤخرا بتونس بين الرؤساء الثلاثة من التزامات بشأن التنسيق المشترك .

يؤكد الفاعلون الأمنيون في الملف أن المعالجة الأمنية ليست حلا بقدر ما هي خيار حسن النوايا مع الدول الشمالية المجاورة في مكافحة الهجرة غير النظامية والتي ترتبط معها تونس باتفاقيات ومذكرات تفاهم بل يذهبون إلى أن التحدي الأمني اتسع في الأرض بعد أن كان في البحر وأن تشتيت الجهد الأمني البحري في ملاحقة المراكب التونسية والإفريقية في عرض البحر سيعيق مجالات تدخل وأدوار أخرى . يجب أن يتجه الحل من المحلي إلى الإقليمي الضيق فالأشمل باعتبار أن الأزمة عابرة للدول بعيدا عن شيطنة المنظمات الحقوقية والمدنية التونسية والدولية المتدخلة في مجال الهجرة والإحاطة بالفئات الهشة ومكافحة الاتجار بالبشر.

Skip to content