مقالات

التونسيون بالخارج… أوكسيجين للاقتصاد المنسي

فطين حفصية
صحفي

” التنفيس المالي” لاقتصاد مختنق هو التوصيف الملائم لتحويلات العمال التونسيين بالخارج والموزعين أساسا على الجغرافيا الأوروبية فالخليجية وأخيرا الأمريكية،  فالتحديث الأخير للأرقام الذي قدمه الرئيس المدير العام لديوان التونسيين بالخارح أشار أن هذه التحويلات بالعملة الصعبة ناهزت إلى حدود متوسط شهر ماي الفارط  ال3 مليار دينار لتسجل ارتفاعا بنسبة 6% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022.

وتشير التوقعات إلى أن “الهجرة المالية العكسية” للتونسيين بالخارج ستحقق هذه السنة رقما قياسيا جديدا يتجاوز عتبة الـ 12 مليار دينار وهو رقم إن تركته مجريات الظروف يتحقق سيكون بمثابة العلاج الحقيقي لعدة ” ألغام ” اقتصادية وجوهرها المساهمة بخمس الاحتياطي الوطني من العملة الصعبة ثم وهذا الأهم تجاوز حجم الاستثمارات الأجنبية خلال السنة الماضية.

إن الأرقام لوحدها دكتاتورية ولا تقبل النقاش، لكن استنطاقها ومحاورتها تحدد كيفية تعامل تونس “الإيجابي”  مع هذه الثروة السنوية المتأتية من كد جاليتها بالخارج، فالتحويل الدوري الدؤوب للتونسيين على اختلاف درجاتهم الاجتماعية والمهنية والثقافية والعائلية يؤكد الرابط القوي بين التونسي المغترب ووطنه الأم،  ويبدو أن نقل هذه الممارسة إلى الجيلين الثالث والرابع من المهاجرين فضلا عن الآلاف المؤلفة التي وصلت فضاءات الهجرة سواء عبر الهجرة العلمية والتقنية أو العادية أو غير النظامية قد تحقق نتائج أفضل على المدى القريب جدا لو وضعت الدولة استراتيجية جديدة تخرج عن القالب التقليدي السنوي المألوف حيث يتم اعتراض القادمين من الخارج جوا وبحرا بباقة ياسمين ونغمات الفلكلور الشعبي.

آن الأوان أولا لتغيير “العقل الحكومي” باتجاه اعتبار التونسيين بالخارج كتلة بشرية تعود سنويا – تحديدا في الصيف- لتنفق وتحول المال نحو اعتبار هذه الكتلة ثروة بشرية ومالية لا بد من حسن توظيف تحويلاتها هذه ومدخراتها نحو مشاريع استثمارية تخلق الثروة والتنمية ومواطن الشغل بدل اكتفاء البلاد بهذه التحويلات الاستهلاكية في مجملها أي تكون عادة موجهة كمساعدات اجتماعية لعائلات المهاجرين أو إلى قطاع العقارات والسكن.

تغيير هذا العقل ينطلق بداية من التشريعات نهاية بالامتيازات ومنها مثلا التقليص من كلفة التحويل التي تعتمدها البنوك التونسية واعتماد الحلول الرقمية الحديثة وتركيز مؤسسات صرف تونسية في الخارج حتى تصل الدولة نحو مواطنيها بالخارج وليس العكس وأخيرا اعتماد جوانب تحفيزية لأي عملية استثمارية بدل إثقال هذا ” المواطن بالخارج ” بجبال من الوثائق والإمضاءات والطلبات والشروط وهي بيروقراطية تجاوزها الزمن والتكنولوجيا.

إن تغيير “العقل الحكومي” يرتبط أيضا بتغيير “العقل التونسي في الخارج” الذي بدأ ينضج اقتصاديا مع التحسن النوعي في عدد المهاجرين التونسيين بالخارج من أصحاب الكفاءات والمشاريع والأفكار، ويرتبط ذلك أولا بوضع خطة وطنية محددة في الزمن والأهداف والأشكال لاستهداف هذه الكفاءات المنتشرة في أركان العالم الخمسة ورواد الأعمال لإطلاعهم على مناخ الاستثمار وتذليل كل الحواجز الممكنة عند المرافقة وثانيا عبر إحكام النسيج الجمعياتي والمؤسساتي التونسي في الخارج الذي بإمكانه لعب دور الإسناد المباشر وغير المباشر.

على المؤسسات المعنية وأجهزة الدولة في الداخل والخارج (مكاتب ديوان التونسيين بالخارج، التمثيليات القنصلية والديبلوماسية ، المراكز الاجتماعية والثقافية، تمثيليات وزارات الاقتصاد والتجارة، الديوانة التونسية، المعهد الوطني للإحصاء،  وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الداخلية، وكالة التعاون الفني واللائحة تطول…) المشاركة في إجراء مسح بشري ومالي وجغرافي داخلي وخارجي عام لتحديد مؤشرات القوة والضعف في هذه الكتلة السكانية والاقتصادية الوازنة فأبسط الأرقام مثلا تتحدث عن مليون ونصف مليون تونسي في الخارج إجمالا أي ما يقترب من خمس السكان فضلا عن مئات الآلاف الذين يتحركون دوريا في فضاء جغرافي خارج الوطن.

تثبت الوقائع وبعض الدراسات المتعلقة بالهجرة ونتائجها الاقتصادية والديمغرافية والاجتماعية أيضا أن تعقد المجال الإداري في تونس يجعل من إحداث وزارة للتونسيين بالخارج أصبح أكثر من ضروري فعددهم لوحده كفيل بذلك رغم تقطع تجربة إسنادهم حقيبة كتابة دولة، ومن شأن هذه الوزارة الاجتماعية أن تجمع الأدوار التقنية والاقتصادية فضلا عن دورها الاجتماعي الرئيسي كما يمكنها اختصار المسافات الادارية واللوجيستية والتشريعية والاستثمارية والديوانية لفائدة هؤلاء والقيام بدور فعال في جعل ” مواطنينا بالخارج ” مواطنين بالداخل أيضا على مدار العام. 

ورغم إطلاق دليل استثماري موجه للتونسيين المقيمين بالخارج كعمل مرجعي يقرب المعلومة ويوجه وييسر الإجراءات وإقامة المنتديات والورشات فإن إحداث إطار مؤسساتي للتونسيين في الخارج وله فروع كبرى في أماكن الكثافة المهجرية يمكن أن يفتح قنوات التواصل المؤسساتي بين الداخل والخارج، ويمكن أن يكون هذا الإطار هو مجلس عام للتونسيين بالخارج أو هيئة عليا لهم تتنوع تمثيليتها ومضامينها وتكون رافعة للديبلوماسية السياسية والاقتصادية والاستثمارية والتربوية والثقافية التونسية .

إن ثراء التركيبة الاجتماعية والمهنية للتونسيين في المهجر: 40% من العمال و 20% من الطلبة و 7% من الإطارات وبين 3إلى 4 % يمارسون المهن الحرة والبقية من المتقاعدين والنساء وربات البيوت والعاطلين والأطفال، ومردودية أرقامهم باعتبارهم يمثلون حوالي 4% من الناتح الداخلي الخام تجعل منهم أولوية في السياسات القادمة وكتلة تنتقل من إنعاش الاقتصاد بشكل جامد وظرفي إلى قوة اقتصادية متحركة ومفتاح متواصل للتنمية .

Skip to content