مقالات

انقاذ المؤسسات والمنشآت العمومية: قرار سيادي

حسين الرحيلي
متخصص في التنمية والتصرف في الموارد

كلما اشتدت أزمة المالية العمومية، وارتفعت وتيرة المطالب الشعبية بالشغل والصحة والتعليم وتحسين الخدمات العامة، إلا وطفت إلى السطح أوضاع المؤسسات العمومية والترويج لكون أوضاعها هي التي تتسبب في انخرام التوازنات المالية العمومية من جهة، أو أن الدولة ليس من مصلحتها الحفاظ على القطاع العام وخاصة الناشط في القطاعات التنافسية والخدماتية. كل ذلك في إطار برنامج مافيوزي مدعوم بخيارات المؤسسات المالية المانحة، وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، يسعى إلى بيع ما تبقى بعد أن فرط نظام بن علي في جل ما تملك الدولة سواء لمافيات العائلة الحاكمة أو للشركات الأجنبية التي لا تتوانى في تحويل مرابيحها بالعملة الصعبة إلى بلدانها الأم مهما كان وضع البلاد صعبا مثل الأوضاع التي نعيشها اليوم.

كما ينبني هذا التصور على أن مؤسسات القطاع العام لو بيعت ستوفر مالا للمنظومة الحاكمة لمواصلة إهداره في إطار اقتسام كعكة الحكم بين أحزاب لا رابطة بينها إلا المصالح الحزبية والشخصية أو خدمة أجندات خارجية.

وأمام كل هذه التحديات التي تواجه مؤسسات ومنشآت القطاع العام وخاصة الشركات العاملة في القطاع التنافسي، يطرح سؤال محوري: هل أن هذه المؤسسات بطبيعتها مفلسة لأنها ملك عمومي كما يروج عرابة السلطة؟ أم أن المعركة في عمقها مرتبطة بغياب المشروع الوطني والقرار السيادي من ناحية، وانعدام الحوكمة والتصرف المحكم للموارد البشرية والمادية لهذه المؤسسات من ناحية اخرى؟ مما حولها الى مجرد بقرة حلوب لمن هم في السلطة فقط.

المؤسسات العمومية إرث وطني

وفق تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2017، يبلغ عدد المؤسسات والمنشآت العمومية 213 مؤسسة ومنشأة تتوزع كما يلي:

  • 50 مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة ادارية وتعتبر منشأة عمومية
  • 52 شركة عمومية خفية الاسم مثل شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيمائي التونسي واسمنت بنزرت والبنوك الوطنية…
  • 87 مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة ادارية
  • 24 مؤسسة عمومية للصحية

تشغل المؤسسات والمنشآت العمومية الى حد سنة 2019 حوالي 190.000 عون بنسبة تأطير تساوي 22 في المائة. وهي النسبة الأرفع على المستوى الوطني، كما تعتبر من النسب المحترمة على المستوى العربي والافريقي. وتعتبر شركات فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي وستاغ والصوناد والخطوط الجوية التونسية وشركة السكك الحديدية وشركات النقل أهم المؤسسات العمومية التي تشغل العدد الأكبر من الأعوان والاطارات.

لذلك مثلت هذه المؤسسات ومنذ 60 عاما قاطرة للتنمية وفضاءات لتقديم وتوفير الخدمات العمومية لكل المواطنين خاصة في مجالات التعليم والصحة والماء الصالح للشراب والكهرباء والغاز والنقل والضمان الصحي والاجتماعي. كما ساهمت المنشآت الناشطة في المجالات التنافسية مثل شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي التونسي والخطوط الجوية التونسية وستير والشركة التونسية للأنشطة البترولية وعجيل والفولاذ وغيرها في ضخ أموال طائلة لميزانية الدولة، مما وفر امكانات مالية هامة قلصت من المديونية.

فالمؤسسات بهذا المعني ليست مجرد دكاكين أو محلات لبيع الملابس الجاهزة، بل هي إرث وطني ودعامة للاقتصاد المحلي وفضاءات لتقديم الخدمات لكل المواطنين. كما لعبت هذه المنشآت والمؤسسات العمومية دورا محوريا في حماية الدولة ومواصلة تمتيع عموم السكان بالخدمات الأساسية إبان انتفاضة 17 ديسمبر 14 جانفي. في تلك الفترة، أغلق القطاع الخاص أعماله وغادر البلاد لأماكن أكثر أمنا لمراكمة أكثر الأرباح.

لكن كيف يمكن انقاذ هذه المؤسسات في ظل الأوضاع الراهنة حماية للمواطنين وحقوقهم في خدمات عمومية، وضمانا لمواصلة ملكية الشعب لثرواته ولمكتسباته التي حققها طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن من خلال هذه المؤسسات والمنشآت العمومية؟

  • أي مقاربة لإنقاذ المؤسسات العمومية

انقاذ المؤسسات العمومية مما تعيشه من أزمات وأوضاع استثنائية، ليس مجرد شعار أو كلام انتخابي من أجل توسيع القاعدة الانتخابية مثلما نسمعه ونراه منذ 10 سنوات. بل إن المسألة مرتبطة بالتصور والرؤية الوطنية لأهمية المؤسسات العمومية في الدولة، أي أن انقاذ المؤسسات العمومية هو قرار سيادي بامتياز يكون طبعا نابعا من طرف حكومة وطنية ديمقراطية لها قناعة بأن القطاع العمومي هو صمام الأمان للشعب ولخدماته ولحاجياته الحاضرة والمستقبلية.

كما أن التصور والرؤية الوطنية السيادية المرتبطة بالتعامل مع المؤسسات العمومية يجب أن تكون وفق منهجية تقوم على بعدين متلازمين:

  • البعد الاول: المرتبط بالمؤسسات الخدماتية العمومية مثل “ستاغ” و”الصوناد” ومؤسسات التعليم بكل مراحله والنقل العمومي ومؤسسات الصحة العمومية. هذه المؤسسات ليست دكانين تخضع للربح والخسارة بل وجب النظر اليها من زاوية الخدمات المقدمة من طرفها للشعب وجودة هذه الخدمات وتلبيتها لحاجيات الناس. لذلك وجب على الدولة توفير كل الامكانات البشرية والمادية لجعل هذه المؤسسات قادرة في كل الظروف على توفير الخدمات العمومية للمواطنين بدون البحث في الربح والتوازنات المالية لأنها أصلا وجدت لتقديم الخدمات العامة وبأسعار وتعريفات مدعومة من الدولة التي تتوفر على مواردها المالية من المواطنين أنفسهم الدافعين الوحدين للضرائب.

لذلك فعوض استعمال المؤسسات العمومية الخدماتية في أغراض وأجندات سياسوية ضيقة، فإنه بات من الضروري التعامل معها على أساس ما تقوم به من أدوار اجتماعية وخدماتية عامة تتطلب من الكل دعمها وتمويلها من ميزانية الدولة في حالة اختلال لتوازناتها المالية لأنها مطالبة بتوفير الخدمات الجيدة وبتعريفات مناسبة وبالتالي فهي ليست مؤسسة خاصة تبحث عن الربح وعن مراكمة الأموال لصالح رأس المال.

  • البعد الثاني: ويشمل المؤسسات الناشطة في المجالات التنافسية والانتاجية، وهذه المؤسسات لا يمكن تكبيلها بالقوانين والاجراءات البيروقراطية وهيمنة سلطة الاشراف على قرارات مجالس ادارتها، مما حول هذه المنشآت الناشطة في المجالات التنافسية فاقدة لأي مقومات المنافسة الفعلية في مواجهة طبيعة المؤسسات الخاصة وليونة وسهولة اتخاذ القرارات وتنفيذها في وقت قياسي. فلا يمكن أن نكبل شركات مثل فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي والخطوط التونسية بترسانة من القوانين والاجراءات البيروقراطية والمعطلة أصلا للأنشطة ونطلب منها أن تكون تنافسية وقادرة على ربح الاسواق وتنمية امكاناتها الربحية. فالمؤسسات العمومية التونسية في الوقت الحاضر لا تحكمها مجالسها الادارية بل سلطة الاشراف التي تقيس نجاعة المؤسسات العمومية بمدى خضوع هذه الأخيرة لمشيئة الوزير أو رئيس الدوان أو رئيس الحكومة.

لذلك فالقرار السيادي والوطني القادر على انقاذ المؤسسات العمومية والمنشآت الناشطة في المجالات التنافسية لا يمكن أن يكون خارج سياق مشروع وطني يؤمن بالمؤسسة العمومية ودورها الريادي في بناء اقتصاد وطني صلب. كما ان هذا المشروع يجب ان يتضمن لقرارات جريئة اولها تحرير المؤسسات العمومية والمنشآت من هيمنة سلطة الاشراف و تحرير مبادرتها و تغيير شروط و قواعد التعيينات عللا راسها بشكل يجعل من الكفاءة والقدرة على الاضافة والاختصاص هي المحددة لتراس مؤسسة عمومية. ليس كما هو الآن، التعيينات المبنية على العلاقات الحزبية والمصالح والعلاقات الزبونية، مما دمر ما تبقى من هيبة المؤسسات العمومية وادخلها في نفق مظلم كل ذلك في إطار سياسة ممنهجة للتفريط فيها.

 

Skip to content