باتت الانقطاعات المتكررة للمياه والتي تصل إلى أيام في عدة مناطق، مشهدا تعود عليه التونسيون في السنوات الأخيرة والذي يزداد حدة خلال فترة الصيف، ويتزامن ذلك مع تأكيدات الخبراء أن تونس دخلت مرحلة الفقر المائي. وقد يعتقد المرء أن السبب مرتبط بندرة الموارد المائية في تونس ولكن المرصد التونسي للمياه أكد ان الأسباب ليست طبيعية فقط وإنما تتداخل معها أسباب بشرية تتعلق أساسا بخيارات الدولة وسياساتها تجاه المياه المتسمة بسوء التصرف وانعدام الحوكمة بالإضافة إلى السلوكيات البشرية الخاطئة.
وكان لنا لقاء مع علاء المرزوقي، منسق المرصد، الذي قدم لـ”الجريدة المدنية” بعض التوضيحات بخصَوص معضلة المياه في تونس والتي أصبح المواطن يعيش على تداعياتها بشكل يومي.
كيف تصف واقع المياه في تونس؟
تعيش تونس ندرة في المياه ودخلنا حاليا إلي مرحلة الضغط المائي فنصيب الفرد لا يتجاوز 400 متر مكعب في السنة وهو يعتبر تحت خط الفقر المائي اذ أن المعدل العالمي هو في حدود ألف متر مكعب من المياه للفرد الواحد.
ويجمع هذا الرقم كل استعمالات المياه من سياحة وخدمات ومياه شرب وفلاحة وصناعة، وبالنسبة لمياه الشرب فالوضعية معقدة أكثر وتتجاوز معضلة ندرة المياه.
فلدينا إشكال أساسي ومحوري يتعلق بالتسربات التي تحدث في شبكات توزيع المياه والتي تتجاوز الـ 50 بالمائة، فشبكات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه مهترئة ومتقادمة فتاريخ تركيزها يعود الي أربعين سنة خلت.
هناك مشكل هيكلي مؤسساتي في علاقة بالجمعيات المائية التي يبلغ عددها حوالي 1400 جمعية تتخبط اغلبها في المديونية أكثر من نصفهم لم يتم استغلالهم منذ سنوات وهو أمر يدعو للوقوف عنده خاصة وأن أكثر من ثلاثة ملايين تونسي يتزودون من المجامع المائية بالمناطق الريفية.
إن واقع المياه اليوم في تونس والمشاكل التي يشهدها والتي لها تداعيات على معيشة الشعب التونسي تتجسد بين ندرة هذا المورد الطبيعي من جهة وبين سوء التصرف وانعدام الحوكمة.
فالسياسات المائية المتبعة منذ عقود لازالت تتخبط في عديد الإشكاليات الهيكلية والصعوبات المتراكمة رغم التكاليف الباهظة التي تتكبدها المجموعة الوطنية في هذا القطاع وعدم الالتزام بالخيارات الوطنية.
هل تتعلق أسباب مشاكل الانقطاعات المسجلة بمسألة ندرة فهل هي مناخية بحتة أم تتداخل مع أسباب بشرية؟
بالنسبة للندرة وحسب قناعاتنا في المرصد الوطني للمياه فإن المسألة ليست لها علاقة بالانقطاعات لأن المياه المخصصة للشرب لا تمثل إلا نسبة ضئيلة مقارنة بالمياه الموجهة للفلاحة، ف80 بالمائة من كمية المياه موجهة لهذا القطاع بما يعني أن كميات مياه الشرب متوفرة في تونس ولكن الإشكال في توزيعها وفي التصرف فيها فشبكات توزيع المياه انتهى عمرها الافتراضي علاوة على استخدام تقنيات قديمة من قبل الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه.
إن ضياع المياه يصل إلى 80 بالمائة في القطاع الزراعي ويقدر المعدل الوطني لضياع مياه الشرب ب30 بالمائة ويصل في بعض المناطق على غرار قفصة وقبلي الي 50 بالمائة.
فمثلا ولاية تطاوين تتزود بالماء من ولاية مدنين ولكن أكثر من نصف الكمية تهدر في التسربات بالشبكات.
فالندرة ليست عائقا أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي بالمياه فتونس منذ القديم تعرف هذا الإشكال وبالإمكان تلافيها كما نجح اسلافنا فب ذلك، فالرومان مثلا تمكنوا من حل هذه المعضلة عبر الحفاظ على المياه من خلال تشييد الفسقيات والمواجل.
للأسف في سنة 2022 تعجز الدولة عن مواكبة التطورات ومازالت هناك تسربات قد تدوم لأيام كثيرة.
واستغرب كيف تقوم الدولة برفع دعمها عن قطاع المياه والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، مقارنة بقطاعات أخرى ليست لها قيمة حياتية مثل ما تمثله المياه وتحرم التونسي من حقه في الماء ووصل بها الأمر إلى الترفيع في فاتورة الاستهلاك ثلاث مرات خلال فترة جائحة تفشي فيروس كورونا في الوقت الذي وفرت فيه عديد الدول الماء مجانا لمواطنيها.
استطيع أن أقول أن الأشكال سياسي بامتياز يتعلق بخيارات الدولة في التصرف في الموارد المائية.
ما هي الحلول التي تقترحونها؟
الحلول لإشكال الندرة موجودة ومكونات المجتمع المدني سبق وأن قدمت عدة مقترحات بالإضافة إلى أن تونس تزخر بالكفاءات البشرية وبإمكانها وضع البرامج والاستراتيجيات الكفيلة بضمان تزود طبيعي بالمياه دون انقطاعات.
لا بد من دعم الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه واحترام حق التونسي في التمتع بخدمات المياه.
فدعم الصوناد ماديا ولوجستيا وتحسين الخدمات وصيانة الشبكات وتمكين الأقاليم الجهوية بالإمكانيات اللازمة والتدخل العاجل في صورة تسجيل انقطاع في المياه، من الحلول القابلة للتطبيق دون إشكاليات.
كما ندعو إلي الحد من استخدام الموارد المائية في الزراعات المعدة التصدير التي لا تحقق السيادة الغذائية وهي تستنزف كميات كبيرة من المياه، ولا يستفاد منها إلا قلة من المستثمرين، وذلك مقابل التركيز علي الزراعات المعاشية والمستدامة والتي لا تحتاج إلي استخدام المياه بشكل مفرط، ولعل ما حصل في حرب أوكرانيا وروسيا يعطي الدروس، فعديد الدول راجعت سياستها الزراعية الخاطئة وعادت الي زراعة الحبوب.
لا بد أيضا من سن إطار تشريعي واضح من خلال تعديل مجلة المياه التي صدرت سنة 1975 والتي لم تعد قادرة على مواكبة التطورات، ومن الضروري أن تتوجه التشريعات إلى الردع والحزم في علاقة بتلويث المواد المائية، ففي تونس لدينا تلوث كبير في المياه حيث تقوم المصانع بالتخلص من المياه الملوثة في مجاري الوديان والشواطئ.
لاحظنا أيضا نقصا في ثقافة المياه لدي التونسيين وهوما يتطلب مزيدا من الجهد والعمل علي ذلك انطلاقا من المدرسة والمحيط العائلي، بالإضافة إلي ضرورة وضع خارطة فلاحية وزراعية تتلاءم مع المناخ َوالتخلي عن الطريقة الاعتباطية والتي لا تخضع للتخطيط المسبق وتتماشي فقط مع ما يطلبه السوق على مستوي هامش الربح.
لا يجب أن نستعد لأزمة الانقطاعات كل صائفة بصفة متأخرة، فلا بد من إحداث خلايا تكون بالشراكة مع المجتمع المدني وفاعلين للتحضير على الأقل قبل بسنة علاوة على مواكبة التكنولجيات الحديثة في مجال التزود بالمياه.
نحذر من انشاء مزيد من السدود، فهي لم تعد هي الحل كنا كانت في التسعينات، فالسدود استنفذت طاقتها القصوى ولا يؤدي استخدامها الس تحقيق نجاعة تذكر، كما أنها تكلف المجموعة الوطنية اموالا طائلة لإحداثها فسد الهوارب الذي كلف تونس قرضا سددته على مدى ثلاثين سنة هو الآن لا جاف ولا يحتوي على مياه.
فقبل الحديث عن انشاء سد لا بد من التحكم في المياه التي تصب فيه والمتتالية أساسا من الجبال وتحضير محيطه لمنع الترسبات في السدود فللأسف هناك سدود لا تتجاوز طاقة استيعابها 40 بالمائة بسبب الترسبات وعدم القيام بعمليات الجهر والصيانة.
كما ننبه إلي تجنب إحداث مشروع لإنتاج القوارص في القيروان استئناسا بتجربة نابل والتي استنفذت كميات كبيرة من المياه والتي يتم ضخها بكلفة ضخمة من الشمال، دون أن تحقق قيمة مضافة على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى تحقيق الاكتفاء الغذائي.
أيضا من غير المقبول أن تقوم الصوناد بقطع الماء على المواطنين فهو اجراء غير دستوري ويتناقض مع الحق في الحياة. وعليها أن تراجع سياساتها الحالية وأن تعمل بكل جدية ومسؤولية ضمن إطار حقوقي وانساني مدستر وأن تنهي قرارها القاضي بقطع المياه على كل مواطن لا يتمكن من دفع فاتورة الاستهلاك.
ما هو رأيكم في مقترح رئيس الجمهورية بتفعيل عمل المجامع الَمائية؟
في الحقيقة الحل جيد، ولكنه ليس حلا يمكن تحقيقه بصفة فورية فهو يحتاج إلى إجراءات ادارية وخاصة إلى إرادة وإمكانيات مادية وإلي الوقت من أجل تنفيذه، وهي ليست المرة الأولى التي يثير فيها رئيس الجمهورية موضوع المجمعات المائية فقد سبق له وجه نفس الدعوة في اوت الماضي.
ووضعية المجامع اليوم معقدة فمئات منها لا تعمل بسبب قطع شركة الكهرباء والغاز الكهرباء عنها، كما أن الشبكات مهترئة ومهملة وهي تكلف على المجموعة الوطنية الكثير، فمنظومة مياه لجمعية مائية واحدة تصل كلفتها إلى 30 مليون دينار.
الستاغ عليها أن توضح الإجراءات التي ستتخذها في إطار تطبيق قرار رئيس الجمهورية، وسنقوم في المرصد بمتابعة الموضوع ومدي تجاوب مؤسسات الدولة.
ماهي أهم الملاحظات التي توصلتم إليها من خلال آلية خارطة العطش التي تعتمدونها؟
لا يكاد يمرّ يوم دون أن تُسجّل إحدى المدن أو الجهات في كامل تراب الجمهورية التونسية انقطاعاً لمياه الشرب يتواصل في أغلب الأحيان لعدّة أيام، إمّا بسبب أعطال طارئة أو بسبب شحّ الموارد المائية.
ولا تصدر “الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه” في أغلب الأوقات بلاغات لإعلام الناس عن هذه الانقطاعات، ليبقوا دون ماء لأيام وأحياناً لأسابيع.
ويقوم المرصد بتسجيل الانقطاعات بالإضافة إلي الاحتجاجات والتبليغات التي يتلقاها من المواطنين علي موقعه الالكتروني الرسمي، ويصدر بمقتضاها شهريا خارطة عطش، تُصنّف الولايات الأكثر عطشاً.
ما يمكن ملاحظته أن انقطاع المياه الصالحة للشرب لم تستثنِ أي مدينة أو قرية أو حتى المدن الساحلية والسياحية والمناطق الراقية.
فالمدن الكبرى أصبحت اليوم من أكثر المناطق التي تتكرر فيها الانقطاعات وهي مناطق بطبعها لا تتوفر على مياه وتتزود من تحويل المياه من الشمال، وهو ما يفسر خطورة التسريات عبر شبكات ضخ المياه وعلى الدولة أن تجعل هذا الملف ضمن أولوياتها.
خارطة العطش تتوسع يوما بعد يوم والأزمة لم تعد مقتصرة على مناطق دون غيرها، فقد أصبحت شاملة وزادت من معاناة التونسيين ونحن في المرصد نبهنا في عديد المناسبات إلي ذلك ونجدد دعوتنا إلى تبني استراتيجية وطنية لتعبئة الموارد المائية والتصرف فيها يتم وضعها بعد حوار وطني شامل حول المياه.