مقالات

تونس والجزائر… حدود الجغرافيا وخنادق التاريخ

فطين حفصية
صحفي

منذ منتصف شهر مارس 2020، تاريخ اتفاق تونس والجزائر على غلق الحدود الفاصلة بينهما في ذروة تصاعد جائحة كورونا، بات هذا العامل بعد كل هذه الفسحة الزمنية الطويلة نسبيا، وذهاب الخطر، “محرارا ” في قيس درجات العلاقة بين البلدين التي تتشابك مع واقع إقليمي ودولي معقد وسياقات محلية وداخلية متحولة تستدعي تفهما متبادلا أحيانا أو تبديدَ المخاوف المطروحة أحيانا أخرى بمعزل عن أي توقيت سياسي أو اقتصادي أو أمني يبدو غير مناسب.

ورغم قرار السلطات الجزائرية بداية العام الجديد الفتح الجزئي لحدودها البرية مع تونس عبر معبري أم الطبول على مستوى ولاية الطارف شرقي الجزائر وطالب العربي بوادي سوف جنوبي البلاد أمام حاملي بطاقة الإقامة فقط من البلدين فإن ذلك اعتبر ” مسحة تجميلية ” في وجه القرار الآحادي الجزائري ونوعا من رفع الحرج المؤقت عن المطالب الشعبية من الجهتين بفتح كلي للحدود كما أثار سيلا من التساؤلات المطروحة حول فتور قائم منذ مدة في العلاقات أصبح محل نقاش وتفكيك في عدد من منابر الآعلام ما يستدعي وضع نقاط الصراحة على حروف الواقع.

وتمثل المعابر الحدودية بين تونس والجزائر شريان حياة لسكان مدن المناطق الحدودية المحسوبة على “مناطق الظل التنموي” في البلدين، واقتصادا داخل الاقتصاد لمئات الآلاف من العائلات على طول الحدود التي تتجاوز 1000 كيلومتر،

كما أنها تعد محركا تجاريا أساسيا تتدفق منه السلع والبضائع المختلفة بشكل بيني ومنفذا سياحيا يعبر منه سنويا ما يزيد عن 3 ملايين سائح جزائري نحو المناطق السياحية التونسية، وظلت هذه المعابر على استراتيجيتها في ميزان المصالح بين الدول والشعوب بعيدة عن تأثيرات المد والجزر في مناخ العلاقات بين تونس والجزائر، ولم يتجاوز إغلاقها فترات محدودة في الزمن لدواع أمنية في أغلب الأحيان وما يعنيه ذلك من خسائر مالية كبيرة بملايين الدولارات لهما، وضياع فرص تنفس إضافية للاقتصاد التونسي المختنق بجملة أزمات متلاحقة.

وبلغة الأرقام الرسمية فإن تونس تعتبر الشريك اقتصادي الثاني للجزائر في افريقيا حيث بلغ حجم المبادلات بينهما 1259 مليون دولار امريكي سنة 2020، و تشير مصالح الجمارك الخاصة بالتجارة الخارجية الجزائرية إلى بلوغ الواردات الجزائرية من تونس وفقا لنظام الاتفاقية التفضيلية بين البلدين 66, 15 مليون دولار مقابل 24,98 مليون دولار سنة 2018، وقامت الجزائر بتصدير ما قيمته 1,032 مليار دولار إلى تونس مقابل واردات منها قدرت ب 228,20 مليون دولار.

وطاقيا تستفيد تونس من امدادات غازية مع مرور أنبوب الغاز الجزائري العابر للمتوسط “ترانسماد” بحجم 3,8 ثمانية مليار متر مكعب من الغاز لتحصل الخزينة التونسية بذلك على عائد يقدر ب 500 مليون دينار تونسي أي ما يعادل 173,34 مليون دولار، وكل هذه الأرقام تؤشر أن الديبلوماسية الحدودية الشعبية والتجارية والسياحية وأخيرا الطاقية هي نقطة ارتكاز العلاقات الثنائية قبل الحديث عن الأسس المتينة في ديبلوماسية الجوار التونسي الجزائري وهي السياسة والأمن والقضايا الإقليمية الشائكة.

الجزائر الرسمية بعثت مرارا إلى تونس الرسمية والشعبية برسائل طمأنة بدت غير كافية إلى الآن حول تواصل الجوار التاريخي الدافئ والآمن مع جارتها الشرقية، فالرئيس عبد المجيد تبون قال في تصريح صحفي من تونس قبل أشهر : “إن القرار بشأن الحدود لا يتعلق بأي بعد سياسي أو أمني كما أنه لا يخضع للعواطف” في إشارة إلى تواصل الغلق الحدودي الجزئي، أما وزير خارجيته رمطان العمامرة الذي زار تونس 4 مرات في شهر واحد بعد تاريخ 25 جويلية فقد نقل أيضا في أحدث تصريحات لمسؤول جزائري رفيع من تونس أن “العلاقات مع تونس بألف خير وأن التونسيين والجزائريين شعب واحد في بلدين وعلاقتهما متميزة وقادمة على مستقبل واعد” وذلك بعد تصريحات جزائرية وصفت بالخارجة عن القاموس الديبلوماسي التونسي الجزائري الجامع أثناء حديث تبون من إيطاليا عن وجود أزمة تونسية وضرورة العودة إلى “الطريق الديمقراطي “.

 الجانب التونسي، المنشغل بدوره بما بعد التدابير الاستثنائية وخارطة الطريق المطروحة والدستور الجديد الذي سيعرض على الاستفتاء والمحاصر بأزمة اقتصادية واجتماعية عميقة واتساع الهوة مع مكونات نقابية ومدنية كبيرة، خير إلى الآن متابعة الصمت تجاه هذا الفتور الصامت وعدم الخوض في ملف حارق للسياق التونسي الآن. وإن تحدث رئيس الجمهورية قيس سعيد في السابق مرارا عما يسميه ب”الروح المغاربية” وضرورة دفع العلاقات القديمة والهامة بين البلدين الجارين.

 تصريحات ديبلوماسية لا تتجاوز مربعات البروتوكولات أمام وسائل الإعلام وصمت فهم على أنه سعي تونسي حثيث للخروج بأقل الخسائر الممكنة من سحابة الصيف العابرة إلى الآن فوق أجواء العلاقات التونسية الجزائرية خصوصا أن لتونس” إكراهات جمة” تحيط بها لتصحيح التوازنات الصعبة جدا مع دول الطوق البري والبحري التي تمثل عمقها الحيوي، و لها أيضا حسابات تختلف أحيانا مع “الشقيقة الكبرى” في الخارطة القريبة أو البعيدة منها وهذا حق محفوظ في العلاقات بين الدول، وإن في حدود منطقية شأنها شأن الجزائر ما بعد الربيع العربي وحراكها الداخلي والأجواء الملتهبة في جوارها الإقليمي العربي والإفريقي والمتوسطي.

ديبلوماسية المواجهة 

قبل شهرين أدلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بتصريح، في حوار تلفزي يستدعي التوقف كثيرا عنده، حين قال “إن من يهاجمنا سنهاجمه، الند للند مهما كنت، من يمسنا نمس به، مرحلة من يضربنا على الخد الأيمن نعطيه الخد الأيسر قد انتهت.

فهم صريح النص أنه “إطلاق نار مباشر” على دول بعينها في المنطقة وخارجها وانتقال ديبلوماسي طارئ في الفكر السياسي الخارجي الجزائري عند التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية الكبيرة

(الوضع التونسي، الأزمة الليبية، قضية الصحراء مع المغرب، العلاقات مع فرنسا، الأنابيب مع إسبانيا، الاضطراب في مالي والنيجر، التداخل الإقليمي والدولي في جملة من هذه الملفات) خصوصا أن للجزائر ما يشبه “المدرسة الديبلوماسية” القائمة بذاتها في الوساطة والتدخل بالحسنى لحل قضايا سياسية وأمنية وأزمات كبيرة في المنطقة والعالم كاتفاقية العراق وايران بالجزائر 1975 وأزمة الرهائن الأمريكيين في طهران 1979 وإنقاذ وزراء أوبك بعد عملية كارلوس 1975 والاسهام في اتفاق الطائف 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.

هذا التوجه إن تم سيلقي بتأثيراته حتما على بعض الرؤى المختلفة بين البلدين وخصوصا الملف المشترك حول الأزمة الليبية بين تونس تأخذ من كل شيء بطرف في الجغرافيا السياسية الليبية وجزائر لها قواعد اشتباك واضحة في الأراضي الليبية حيث طرابلس “خط أحمر”، وتبدو هنا الديبلوماسية التونسية أمام حتمية تقديم رسائل الطمأنة وتصورها الواضح للملف الليبي ووموقفها من التغلغل الإقليمي المقلق للجزائر من ناحية إمكانية جر تونس إلى “مستنقع” التحالفات صلبه في ليبيا.

أما ثاني الملفات التي نجحت تونس منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في الابتعاد عن “رمالها الساخنة” فهي المتعلقة بقضية الصحراء، وبعد ما يزيد عن أربعة عقود من الصراع الديبلوماسي المفتوح بين الرباط والجزائر فقد حافظت تونس إلى الآن عن مسافة أمان واضحة بين الجانبين ولجمت كل طموح في اقتلاع موقف يقترب من خندق هذا الطرف أو ذاك لكنها باتت في وضع أكثر إحراجا لضمان نهج مشترك في هذه القضية الإقليمية التي تؤثر على المحيط المغاربي برمته الميت مؤسساتيا منذ العام 1994.

ما يفتح باب التفاؤل حول ثبات العلاقات بين البلدين وإن لوحظ نوع من الجفاء مؤخرا هو محافظتهما على ثوابت عدم التدخل في الشأن الداخلي والتأكيد أن أمن تونس من أمن الجزائر والعكس بالعكس، فالجزائر التي أيدت دون تحفظ تدابير 25 جويلية يبدو أنها تريد “فهما أشمل” لما سيتم وتهدئة مخاوفها من أي استقطاب لتونس خارج معادلة المصالح الجزائرية، أما تونس فترغب في رفع “حالة التأهب”  الجزائرية الواضحة حول ما يجري في البلاد والاطمئنان بشكل لا لبس فيه حول ما كان يخاطب به الرئيس الراحل بورقيبة نظيره المرحوم هواري بومدين أثناء بروز أي خلاف ولو كان بسيطا من أن  “الجزائر بلد ضخم بصحرائه ونفطه وغازه وشعبه وأنا أخشى على تونس من أن تبتلغها معدة الجزائر”… تعبير مجازي ظل لعقود طويلة يحكم العلاقات المتميزة بين البلدين وما سطرته لها حدود الجغرافيا وخنادق التاريخ.

Skip to content