مقالات

علي بن سالم…بطاقة الحرية لازالت في جيبي 

فطين حفصية
صحفي

رحم الله المناضل الوطني علي بن سالم، غادر بصمت يحبذه زمن تعدد الحنجوريين وتفشي العدوى الحلقية للهذيان كرياضة وطنية أصيلة، غادر “عم علي” من المستشفى العسكري بالعاصمة مع قيام أنبياء للوطنية في محافل السياسة والحكم والأحزاب والمال والإعلام والثقافة وهو الذي حمل حب البلاد في قلبه لا لسانه، لا يعشق الرجل المدح والثناء حيا كما لا يعشقه – يقينا – وهو في مرقده الأبدي لكنه يعشق الحرية ورحلتها الطويلة ويعتبرها ألذ من الحلوى.

لقد كان هذا الأسبوع ولعناد مع التاريخ هو للصامتين بعد فقدان رجل الدولة والاقتصاد رشيد صفر والكلمة والشعر كمال حمدي.

تتسع رحلة العمر للراحل لما يقرب من قرن وإن نبشت يومياته فستكتب فصلا صغيرا من مدونة نضالية حقوقية سياسية ومذكرات بدايتها واضحة لكن أصعبها كالروايات وهو النهايات، وفي اختصار للزمن سيتم القفز فوق السنين والعقود والأشخاص والسياقات للقول إنه شخص بثلاث حيوات في الدنيا بعد أن أفلت وبأعجوبة من حبال المشنقة في مناسبتين ونقل خبر وفاته وهو حي يرزق في صحيفة يومية في العام 2001 (القصة في نهاية البورتريه).

يكفي ذلك للتدليل أنه مرواغ جيد للموت، لم يكن مستعدا للدفاع عن عدد من الأشخاص لا يتجاوزون تشكيلة كرة قدم فاشلة بل وهب وقته وجهده وصحته وماله القليل للدفاع عن الوطن أولا والكرامة ثانيا والمضطهدين تاليا إن في زمن الانحيازات الإيديولوجية أو الحب السياسي العابر للمصالح.

الفقيد انخرط منذ شبابه في النضال الوطني المسلح ضد المستعمر متى انفجرت ثورة 1952 وتابع رحلة السلاح بعد الاستقلال الداخلي الذي رفض مضمونه ثم في معركة الجلاء ببنزرت التي أصيب فيها نهايةً بمحاولة قلب نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في العام 1962 وذاق “حلاوة” سجون الاستقلال منفردا مكبلا  معذبا معزولا بين حياة وموت مستندا فقط إلى ظله وسلاح الصمود.

 يحترمُ علي بن سالم “أعداءه” فبورقيبة شخص استثنائي ورجل عظيم وأب الاستقلال ولو سمع “المجاهد الأكبر” ما قاله “المجاهد الصامت ” لرد التحية بأفضل منها من معجمه الشعبي والسياسي المفتوح على كل التوصيفات.

سار الرجل كتفا بكتف مع الأنظمة الواحدة والحزب الواحد والإعلام الذي لا يعاف “جنرالاته” حاكما أو محكوما، ومشى في هبة الانتفاضة الشعبية في الصفوف الأمامية محذرا من أي خنجر في خاصرتها – وهو ما تم – بعد أن جمع إرثا نضاليا حقوقيا لا ينازعه فيه أحد فلا أصعب من أن تمنحك الحياة خوض كل الامتحانات والخروح بانكسارات وانتصارات وآمال وآلام.

طلق الراحل السياسة التي لم يحبها عن بعد تجربة ” مريرة ” في روافد نداء تونس التي لا تلتقي وجفت منابعها في أول اختبار أمام مفاتن الحكم ومغرياته وانكفأ  مجددا في منزله  بعد انتهاء عهدته البرلمانية 2014 / 2019  والتي تولى فيها رئاسة أول جلسة افتتاحية باعتبار سنّه حيث كان مقر سكناه  “كعبة الحج الثوري”  التي لا تغادرها قوافل الحقوقيين والمعارضين والمضطهدين زمن كل الرؤساء التي عرفتها مساحة الجمهورية الضيقة وخارطة البلاد السياسية الواسعة بما يقرب المائتين وخمسين حزبا لا نرى أغلبهم ولو في المنام.

ومع تصاريف الحياة حمل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان على كتفه تأسيسا ونضالا منذ الثلث الأخير من السبعينات وبداية الثمانينات ثم “محنة” في أواسط الألفينيات حين كانت مقراتها محاصرة وأقفالها موصدة، وله  ميراث رمزي داخلها يستوي فيه حظه لوحده مع حظ بقية الرابطيين على تعدد تلويناتهم الرفاقية.

بعيدا عن مساحة الحزن يحافظ الراحل على ابتسامة حكيمة  فقد وضعت صورته في صفحة الوفيات في صحيفة يومية  لتشابه إسمه مع إسم مناضل الريشة والرسم الفنان التشكيلي علي بن سالم الذي رحل في العام 2001، ففقدت تونس يومها افتراضيا “زوز علي بن سالم” شيخ المناضلين مع شيخ الرسامين وذهب رئيس التحرير وكاتب المقال – حسب معلومات وثيقة – إلى محكمة رئيس التحرير الوطني الذي عن له يومها و- الحمد لله – إصدار عفو صحفي عام – على هذه الزلة التي لا تغتفر باعتبار أن الموت آلة حادة لا تستثني أحدا.

قال الصغير أولاد حمد كاتبا مقالا إلى وزارة الداخلية وضواحيها “لقد فوجئت بأن العديد من أعوانك يحفظون شعري فكدت أطير فرحا وقلت يومها مازحا لتكن الطبعة الأولى لأعوان وزارة الداخلية” أما “عم علي” فقد كان يطير فرحا كلما حفظ أعوان البوليس السياسي الذي يحاصره اسما جديدا أو مضطهدا قديما في طبعة بياناته التي لا تتوقف وقتها بعد أن حفظوا -عن ظهر قلب- ما يأكل ويشرب يوميا.

انشغل الفقيد كحال عديد الوطنيين والتونسيين لحما ودما وانتماء بهموم البلاد، وإن أصاب في محطات أو أخطأ في أخرى كحال كل فعل بشري لكنه من المؤكد أنه أصاب حين اقترب من القول : دافعوا عن ثورتكم الوليدة كما تدافعون عن حصون مدينتكم… وللأمل بعد رحيله تقاليد وطنية، فحذار : علي بن سالم يخفي آخر.

رحم الله شيخ المقاومين ورزق أهله ومحبيه جميل الصبر والسلوان.

Skip to content