مقالات

في الجنة الإعلامية الموعودة

فطين حفصية
صحفي

لم تستغرق الجلسة العامة المخصصة لتداول مشروع تعديل المرسوم 116 الذي تقدمت به كتلة ائتلاف الكرامة كثيرا لتنفض على رفعها إلى موعد لاحق (لن يتم نظريا). وتنتهي بوقف الجدل الذي رافقه طيلة أسبوع كامل رغم سيل الأحداث المهمة في يوميات الوطن والمواطن و”بخيبة تشريعية متوقعة ” للتحالف البرلماني القائم (النهضة ائتلاف الكرامة وقلب تونس) باعتبار تحرك شق من كتلة حركة النهضة ضد ريحه نحو المنطقة الرمادية الآمنة عملا بمقولة بين نعم ولا تطير الأرواح.

حمل المشروع علامات “موته الجنيني البرلماني” منذ البداية رغم محاولات الحشد داخل القبة التشريعية وفي القنوات ووسائل الإعلام ” الصديقة” وعبر التعبئة التواصلية الاجتماعية وإطلاق الوعود والأحلام بتحول البلاد، بعد اعتماده، إلى جنة إعلامية تجري من تحتها أنهار من القنوات التلفزية والمؤسسات الاستثمارية وينعم ساكنوها بـ “حور عين إعلامية” تكفلها تعددية المشهد المفترضة ويرفل صحفيوها وتقنيوها واداريوها في سدة من الاطمئنان والسكينة المادية والمعنوية. 

علامات السقوط البرلماني والمهني أيضا لم تتطلب كثير جهد لانخراط النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والاتحاد العام التونسي للشغل عبر الجامعة العامة للإعلام والمنظمات الشريكة وعدد آخر من المنظمات الوطنية (عمادة المحامين والرابطة) ومكونات المجتمع المدني في موجة صد للمشروع المفخخ في حين تجمع صحفيون، بدعوة من هياكلهم النقابية، أمام مقر مجلس النواب بإسناد مدني مشكلين قوة ضغط للمطالبة برفضه، كما تم عقد لقاء اعلامي لتفسير المخاطر الكامنة واطلاع الرأي العام على كل الحيثيات المحيطة به وتفنيد مغالطات أن الصحفيين يقادون إلى جنة الاصلاح بالسلاسل.

إن أي تأمل نقدي هادئ للعنوانين الكبيرين الذين طرحتهما المبادرة (تركيبة الهيئة والاجازة) بغض النظر عن الطرف السياسي المقدم مع مقارنة حالة النوايا مع حالات الفعل تجعل المتابع يقف أمام “بدعة” في الطرح والشكل لا وجود لمثيل لها في التجارب المقارنة القريبة أو البعيدة، في حين جاءت قراءة مؤسسة رئاسة الجمهورية مطمئة دستوريا ومعنويا بعد أن نبه بلاغها الرسمي من “خطورة خرق أي مبادرة تشريعية لأحكام الدستور أو خضوع بعضها لحسابات ومصالح الأحزاب أو اللوبيات السياسية والاعلامية” بل أنها تحدثت عن”عدم المس من الأمن القومي لبلادنا عند تطوير المشهد الاعلامي” ما يحيل إلى الرؤية المنادية بحماية “السيادة الاعلامية للدولة” رغم اتفاق الجميع على أنه عصر السماوات الاعلامية المفتوحة. بدت أعلى درجات السقوط في مخالفة المشروع للدستور وأدناها في انحرافه الكامل بالدور التعديلي للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري عبر النية الواضحة “لتقليم أظافرها التعديلية والتنظيمية” بنزع اختصاص إسناد إجازات البث للقنوات التلفزية وفق كراس الشروط وترك الباب مواربا فقط للتصريح بالوجود لدى الهيئة فقط، بل يمضي الفصل الجديد المقترح للمرسوم في الدعوة الى الغاء التراخيص في ما يتعلق بإحداث القنوات التلفزية والمحطات الاذاعية ما يجعل من الخارطة الاعلامية التونسية مهددة “باللبننة” أو “العرقنة”، وحركة الجولان الإعلامي بالفوضى العارمة دون إشارات ضوئية تنظيمية، وبالتالي تأسيس “مستوطنات إعلامية” تؤسس للفوضى من باب الحرية.

فضلا عن ذلك فإن ما يحول قراءة النوايا الحسنة الى شكوك حقيقية هو أن من يدافعون عن خيار التصريح هم أنفسهم من يرفضون منذ سنوات كراس الشروط فـ”حيلة” التصريح إذا تركنا جانبا مخاطرها المحتملة والكثيرة هي التفاف مقنع على كراس الشروط الذي يفرض التصريح بالتمويل وهنا جوهر الإشكال العميق إذا حفرنا جيدا في مدلولات التمويل ومصادره لإنشاء وسائل الاعلام وغاياتها. أما الأمر الثاني فهو المتعلق بالتركيبة الجديدة لأعضاء الهيئة عبر المرور بـ109 أصوات فقط، ما سيجعل من هذه الهيئة محل المحاصصة الحزبية والتجاذب السياسي المصلحي وضمان القرب والولاءات كمسلك واضح للتزكية البرلمانية لتركيبتها وبالتالي العودة الى مربع من ليس معي فهو ضدي والاختيار على ” الهوية المنفعية “.

يذهب ائتلاف الكرامة بعد الفشل الجديد لإحدى مبادراته التشريعية إلى استخدام حقل دلالي حربي مفاده انه يخوض أم المعارك بالنسبة إليه عبر ما يسميها بمبادرة تحرير الاعلام والحال أن التحرير يحتاج تنويرا تشريعيا ينتقل بنا من المراسيم المؤقتة الى القوانين في عمل الهيئة الدستورية. أما الحكومة، وبعد أن سحبت من مكتب مجلس نواب الشعب في الدقيقة التسعين المشروع المتفق عليه بين كل المكونات المتداخلة في الأمر، فإنها أفاقت بعد ضياع الوقت من “غفوة” المناولة التشريعية التي أحدثتها بدعوى طرح المشروع للنظر وتعميق النقاش حوله مجددا.

رب ضارة نافعة أحيانا، فلعل في سقوط مشروع التعديل خيرا قد يسرع باب التنقيب عن البترول الحقيقي لأجل مشهد إعلامي أفضل بإكمال تركيز مؤسسته التعديلية الدستورية كشكل ديمقراطي للتنظيم الأفقي للسلطة وفتح حوار مهني ومدني حقيقي حول الإعلام يتخذ شكل ندوة وطنية جامعة تتداعى لها كل الحلقات المعنية من هياكل مهنية وتعديلية وصحفيون وحكومة وأحزاب ومنظمات ومراكز تدريب معترف بها ومعهد الصحافة وخبراء لأجل إصلاح “الرجل المريض” حقيقة لا ترقيعا أو عبر محاولة فرض قيود تشريعية بالوكالة فلا أحد يحب قيوده وإن كانت من ذهب.

Skip to content