مقالات

في منهجية الخروج من الأزمة

طارق السعيدي
صحفي

لا شك أن المتابع للأزمة الاقتصادية التونسية يلاحظ تباين الرؤى والتصورات حول سبيل الخروج من الأزمة. ورغم تعدد المقترحات فإنه يمكن إجمالا حصرها في رؤيتين  تتمثل الأولى، والتي تقودها الحكومة، في رؤية ليبرالية تقترح مزيدا من دعم رأس المال ومزيدا من التحرير الاقتصادي ومزيدا من الضغط على الإنفاق العام. ورؤية اجتماعية، يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل والقوى الاجتماعية، تقول بوجوب المرور إلى منوال تنموي جدي قائم على العدالة الجبائية والحفاظ على دور الدولة اقتصاديا واجتماعيا وإدماج كل المهمشين في خلق الثروة وتوزيعها. ويبدو واضحا وجليا ان الخلاف حول الأزمة لا يتعلق بالتشخيص وبتحميل المسؤولية رغم ما فيه ليقال، بقدر ما يتعلق  بالمنهجية المتبعة للخروج من الأزمة.

الخيارات المطروحة

إن كل اقتصاد، مهما كانت أزمته، سيتمكن بشكل أو بآخر إلى الخروج من الأزمة والذهاب إلى منطقة توازن جديدة، وستكون أوضاع وأحوال الفاعلين الاقتصاديين في منطقة التوازن مرتبطة ارتباطا وثيقا بمنهجية مواجهة الأزمة وحزمة الإجراءات المتخذة للخروج منها. وتقترح النظرية في هذا المجال ثلاث حلول أولها الحل الراديكالي أو الثروة بما للكلمة في الأدبيات الماركسية من معاني الاذابة وإعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

 هذا الحل النظري يجعلنا أمام خيار المرور بقوة الثورة إلى نمط إنتاج جديد. ولما كانت الظروف الموضوعية غير ناضجة على رأي “الرفاق”، واعتبارا لأن موازين القوى مختلة إلى حد كبير لصالح الامبريالية كما يقترح “رفاق” آخرون، فإن هذا المخرج من الأزمة الاقتصادية يصبح غير مطروح تماما في الوقت الحالي ويبقى أمام تونس خيارات من داخل الفكر الرأسمالي بمختلف شقوقه من الإجتماعي إلى الليبرالي المتوحش. ويتمثل الحل الأول في الخيار التبريري الليبرالي والذي يعتبر أن الأزمة ناتجة عن تعثر بسيط لمحركات النمو يمكن تجاوزه عبر إعادة التوازن للتوازنات الكبرى مع التأكيد على السوق هو أفضل آلية لاستعادة التوازن ولا حاجة مطلقا لتدخل الدولة. 

وهنا نجد أن الحكومة التونسية تنسجم مع هذا التصور النابع من أدبيات صندوق النقد الدولي ولذلك فهي تقرر لمواجهة الأزمة الانسحاب عبر خفض الانفاق ورفع الدعم ووقف الانتداب. وتسعى جاهدة إلى أن تفرض عدم الزيادة في الأجور، وقد تعلن التوجه نحو التفويت في المؤسسات العمومية. وفي المقابل فإنها لا تتخذ أي خطوة في اتجاه دعم الخزينة من جيوب الأغنياء أو التوجه نحو المتهربين ضريبيا.

 إن هذه المنهجية المتبعة ليست نابعة من مزاج سياسي بقدر ما هي التزام بالمنهجية النيوليبرالية التي ترى أن الحل عند الأزمات يكون عبر “العرض”. وللتذكير هنا فإن النظرية الليبرالية تعتبر أن الاقتصاد قائم على العرض والطلب. وفي حال وجود أزمة فإنه يعني ذلك وجود اختلال بينهما، وهي ترى بضرورة العمل على خلق مزيد من العرض بمكوناته المعروفة وذلك عبر تشجيع مطلق لراس المال.  وكبديل لهذا التصور الحكومي يقترح المدافعون عن الخيار الاجتماعي الحل عبر الطلب. ويتضمن هذا الحل الرفع في الاستثمار العمومي من أجل رفع الأجور ودعم المقدرة الشرائية أي رفع كل مكونات الطلب. كما يرون ضرورة العدالة الجبائية كحل أساسي لدعم ميزانية الدولة واستعادة التوازنات المالية الكبرى. وتجد هذه المقترحات سندها النظري القوي في فكر كاينز الذي يعتبر أن السوق يشهد الكثير من الاختلالات التي تجعله غير قادر على التحول نحو نقطة توازن جديدة دون تدخل الدولة ويقترح أن على الدولة أن تستثمر هناك حيث لا أحد يمكنه أن يستثمر.

من يدفع الكلفة؟

إن جوهر الصراع بين التصورين أو المنهجيتين المعتمدتين للخروج من الأزمة يكمن في الإجابة عن سؤال من سيدفع كلفة الخروج من الازمة؟  وقد لا يكون من الصعب استنتاج أن الطبقة الوسطى في تونس هي المحمولة على دفع كلفة الأزمة بناء على الإجراءات الحكومية في حين يريد الاتحاد العام التونسي للشغل والقوى الاجتماعية أن تدفع الكلفة من جهد مختلف الفاعلين وان يتحمل القسط الأكبر منها أولئك الذين تمعشوا عقودا من التهرب الضريبي وراكموا ثروات من عدم دفع ما استوجب دفعه للخزينة، وأولئك الذين تمكنوا بفضل تضحيات العمال والطبقة الوسطى من مراكمة الثروات وإمكانات العيش الكريم أي أولئك الأقدر على تحمل الكلفة بأخف الأضرار.

 والحقيقة أن معيار القدرة على التحمل ليس الوحيد الذي يرجح ضرورة حماية الطبقة الوسطى من مخاطر انعكاسات الازمة بل للدور الكبير الذي تقوم به هذه الطبقة سواء على صعيد الاستهلاك أو عبر المساهمة في الإنتاج. وقد يكون الذهاب بعيدا في ضرب مكتسبات الطبقة الوسطى عبر رفع الدعم ووقف الانتداب وخفض الإنفاق العمومي مخاطرة كبرى قد تجل الاقتصاد التونسي يفقد ركيزة اجتماعية واقتصادية هو في أمس الحاجة إليها.

Skip to content