تضمن قانون المالية لسنة 2022 عدة إجراءات لفائدة المؤسسات الاقتصادية خاصة المؤسسات الصغرى والمتوسطة والمؤسسات الناشطة في المجال السياحي. وبقطع النظر عن جحم المساعدات ومضمونها فإن تقديم الدعم للمؤسسات الخاصة بات مسألة تستوجب التوقف للنظر والتساؤل لما له من انعكاسات سلبية خطرة جدا على الاقتصاد.
مبدأ عام
إن المبدأ السياسي العام يقتضي أن تتدخل الدولة لفائدة جميع الفاعلين للمساندة والدعم كلما تطلبت الحاجة. وقد رأينا الدول الأكثر ليبرالية في العالم تتدخل البنوك خلال ازمة الرهن العقاري في 2008 حيث دفعت الولايات المتحدة الأمريكية 700 مليار دولار (20 مرة الناتج القومي الخام التونسي) لإنقاذ البنوك. ورأينا الدول تتدخل لدعم المؤسسات خلال جائحة الكوفيد-19 فقد خصصت ألمانيا 550 مليار يورو لدعم المؤسسات عن طريق قروض ومساعدات. وكما نلاحظ فإن الدعم والمساندة تقتصر على الأزمات وخاصة الأزمات الخارجية الناتجة عن أسباب لا تتحكم فيها المؤسسة الاقتصادية. وقد يكون من المهم التأكيد على التدخل بهذه الصيغة يكون ذو طابع سياسي ينبع من مسعى الدولة إلى استقرار النسيج الاقتصادي تجنبا للهزات الاجتماعية. أما اقتصاديا فإن كل الدول الغربية تعتمد أو تزعم ذلك على الأقل على المنافسة الحرة والنزيهة وترفض تدخل الدولة لدعم مؤسسة اقتصادية لأن قرار الإنتاج في ذلك العالم هو قرار مسؤول.
إن قرار الاستثمار فعل واع إرادي يفترض فيه أن يكون نابعا عن دراسة موضوعية لامكانيات الإنتاج والتسويق وتدفق الموارد وحجم المداخيل. وإذا توفرت كل هذه الشروط فإن المؤسسة لا تكون مطلقا في حاجة إلى أي مساعدة. أما بالنسبة لدور الدولة في رسم التوجهات الاقتصادية وفي تحفيز الاستثمار ورفع النمو الاقتصادي فتلك حكاية أخرى لا تلتقي مطلقا مع إهدار المال العام في دعم المؤسسات. حيث يقوم تدخل الدولة على توفير المناخات وسنعود إلى هذا الأمر لاحقا.
اقتصاد الريع
قلنا إذا إن التدخل القائم على اهدار المال العام ليس من سمات الاقتصاديات المتقدمة بل هم سمة التخلف الاقتصادي القائم على الزبونية الاقتصادية واقتصاد الريع. لا يختلف اثنان في تاريخ بروز القطاع الخاص في تونس في عهد الدولة ما بعد الاستعمارية ويكفي الاطلاع على تقرير الخوصصة في تونس الصادر عن المعهد الوطني للمنافسة في ديسمبر 2010 لاكتشاف مسار تشكل القطاع الخاص وبروز الريع كسمة ملاصقة له. ويذكر التقرير أن كبار مسؤولي الدولة احتكروا الاستفادة من الخوصصة نتيجة توفرهم على المعلومة وسهولة حصولهم على القروض وقدرتهم على التأثير على الاتجاهات العامة للسياسات الحكومية وبذلك تشكلت احتكارات بدائية تمتع المنافسة دون أن تتمكن من تطوير قدراتها التنافسية فنجد بذلك “عمالقة” يهيمنون على القطاعات الإنتاجية ويمعنون دخول من قد ينافسهم بجدار من القوانين البيروقراطية السالبة للحق في الإنتاج. هذه البنية المشوهة للاقتصاد أسست لعلاقة وطيدة بين السلطة والمال في علاقة زبونية متبادلة خنقت الاقتصاد وقللت فرص الإنتاج والنمو إلا بما يسمح بها هذا التحالف الاقتصادي والسياسي لتصبح النفعية منهجا عاما في علاقة الإدارة بالمؤسسة الاقتصادية فيما يمكن تسميته بالريع المعمم.
الريع المعمم
وإذا كان الريع هو تملك مجموعة محدودة من الحق في الإنتاج أو الاستثمار بحماية القوانين والدولة فإن حالة التكسب المتبادل بين الدولة والمؤسسات الاقتصادية خلق نوعا من الريع المعمم. هذا النوع من الريع نشأ بعد مراكمة سنوات من الدعم الدائم و”الموصول” والاعفاء الجبائي الذي لا يتوقف وهو ما خلق لدى المسؤولين الإداريين، خاصة في مصالح الجباية والمصالح المرتبطة بنشاط المؤسسات في مختلف الوزارات، رد فعل عفوي يجنح الى تقديم الدعم. وقد خلق هذا السلوك ريعا جهويا ومحليا فعلى سبيل المثال لا تسوغ الأسواق الأسبوعية الا لمجموعة قليلة جدا من الأفراد داخل المدن الداخلية وهم أشخاص معروفون بولائهم للحاكم (أيا كانت طبيعة النظام وطبيعة هذا الحاكم) وبنفوذهم الجهوي والمحلي المكتسب من الريع المحلي.
دعم التنافسية
إن انتقاد هذا الوضع من الريع الاقتصادي باعتباره إطارا عاما لإهدار المال العام لدعم المؤسسات لا ينبع من رغبة في حرمانهم من هذا التكسب رغم مشروعية هذا المسعى بل إن المسالة أعمق من ذلك نتيجة انعكاسه على الاقتصاد بشكل عام. فقد أدى الريع والدعم الدائم إلى ضعف تنافسية المؤسسات التونسية في مواجهة أي منافس خارجي محتمل والأمثلة كثيرة. فقد أدى فتح الباب امام توريد الفولاذ المقاوم للصدأ (inox) إلى ضرب هذه الصناعة على الصعيد الوطني كما أضر توريد الملابس الجاهزة بمؤسسات النسيج التونسية. والحقيقة أن القيود التي تضعها الدولة على عدد كبير من المنتجات هو الضامن الوحيد لاستمرار بعض الصناعات التي قد تنتهي في أشهر ان وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع المنافسة الخارجية. إن لكل اقتصاد في هذا العالم مهما بدا ضئيلا قدراته التنافسية وليس على أصحاب القرار إلا حسن التموقع داخل الخارطة العالمية للاقتصاد وهنا يبرز دور الدولة كفاعل اقتصادي قادر على تحريك الاستثمار ودفع النمو ورسم السياسات الاقتصادية.
البدائل العاجلة
لقد أشرنا سابقا إلى أن دور الدولة في دعم المؤسسات لا يجب أن يكون شكلا من أشكال الابتزاز والتكسب بل يجب أن يكون دافعا لتعزيز تنافسية الاقتصاد ككل ولتعزيز إنتاجية عوامل الإنتاج وذلك عبر توفير البنى التحتية الضرورية والقوانين المحفزة وإلغاء كل القوانين البيروقراطية المكبلة للاستثمار. كما يجب على الدولة بداهة وضرورة القيام بالدراسات الضرورية للسوق الوطنية والإقليمية والعالمية (هذه الدراسات منعدمة لأن اقتصاد الريع لا يحتاجها) وتحديد الحاجيات والمجالات التنافسية وتوجيه الاقتصاد نحوها. ان البديل المنطقي للريع الاقتصادي هو رفع التنافسية وحسن التموقع عبر الاحتكاك بالعالم حيث لن يكون في مقدور أي اقتصاد الانعزال التام في المستقبل القريب وربما القريب جدا. إن الخطر الكامن في اقتصاد الريع هو تهديد السيادة الوطنية لأن الريع يجعل كما بينا سابقا الاقتصاد هشا في مواجهة العواصف العالمية فالمطلوب إذا وقف العلاقات الزبيونية بين السياسي والاقتصادي وتوجيه الجهد الوطني نحو دعم تنافسية الاقتصاد ودعم المجالات الضامنة لأمننا الوطني الغذائي والبيئي ووضع المؤسسات على محك التنافس الحر والنزيه داخليا استعدادا للمنافسة الخارجية وتحديد مميزاتنا التنافسية لصناعة مربعنا الخاص بنا دوليا.