مقالات

قراءة قانونية في وضعية أفارقة دول جنوب الصحراء في تونس: بين المشروع والممنوع

محمد المهدي عجيلي:
قاضي بالمحكمة العقارية بتطاوين وباحث دكتوراه في القانون الخاص
الأستاذ محمّـد قصّارة:
محام وباحث في القانون

لم ينفك الجدل قائما حول وضعية أفارقة دول جنوب الصحراء وتواجدهم بأعداد كبيرة في التراب التونسي، وقد احتدم النقاش حولها في المدة الأخيرة حيث اختلط المعطى السياسي والاجتماعي بالمعطى القانوني فكان لا بد من تمييز الجانب القانوني للمسألة ومحاولة معالجة هذه الظاهرة التي خلقت حالة خلاف انقسم الرأي حولها بين من يصفها بالأزمة ومن يتجه إلى اعتبارها مخططا خطيرا يتهدد أمن البلاد، فضلا عن شق آخر يرى فيها زوبعة في فنجان معالجة قانونية يتقارع فيها المنطق بالقانون وغاياته.

بدأت أعداد أفارقة دول جنوب الصحراء ترتفع بل تتضاعف في تونس بداية من سنة 2014 في فترة العهدة الرئاسية للرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي الذي قرر تلك السنة إلغاء التأشيرة للقادمين من عدد كبير من الدول الافريقية غداة ملتقى: ” تونس وافريقيا الصحراوية: نحو استراتيجية التكامل المستدام. “وبذلك ألغت تونس فرض التأشيرة على ثلاثة وعشرين 23 دولة افريقية وهو رقم يعتبر كبيرا إذا ما قورن بدولة مجاورة كالجزائر التي لا تعفي سوى مواطني 6 دول أو المغرب التي تعفي مواطني  9 دول فقط وكذلك مصر التي لا تمكن سوى لـ 5 دول، دون الحديث عن ليبيا التي تفرض التأشيرة على جميع الدول الافريقية باستثناء دولة وحيدة هي تونس.

هذا القرار السياسي ترتبت عنه موجة عارمة لهجرة مواطني دول افريقية عديدة على غرار نيجيريا ومالي والتشاد والكاميرون وساحل العاج والنيجر والسينغال… تعددت أسبابها بين الهروب الاضطراري من ويلات الحرب والمجاعة والفقر والمرض إلى تحقيق الحلم بالهجرة نحو الشمال، نحو الملاذ الأوروبي، حتى رأى البعض في هذه الهجرة أن تونس قد استحالت منذ ذلك التاريخ بوابة عبور نحو أوروبا وأن أمواج سواحلها صارت تقذف بأرواح مهاجرين أفارقة جنوب الصحراء مع الموج والزبد…

وتحتم معالجة هذا الموضوع من الوجهة النظرية القانونية أن نقف عند مفترق قانوني، إن صح التعبير، حيث نجد أنفسنا قبالة نصوص قانونية عديدة ومتفرقة نحاول جمع شتاتها لأن لها علاقة بالموضوع.

فعلى الصعيد الدولي فإن لتواجد أفارقة دول جنوب الصحراء بتونس ترسانة من المعاهدات الدولية التي صادقت عليها دول كثيرة منها تونس تنظم وضعية اللاجئين تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، وهي في مجملها ذات طابع ملزم للدول الأعضاء باستثناء ما كان منها له صفة البروتوكول الاختياري. ومن بين هذه المعاهدات الدولية والتي لها منزلة قانونية أرفع من النصوص القانونية الوطنية (القوانين الأساسية والعادية) نذكر مثلا اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لسنة 1951 والمعدلة في 1967 التي صادقت عليها بلادنا والتي تعرف اللاجئ بكونه : ” كل شخص يوجد خارج دولة جنسيته بسبب تخوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، و أصبح بسبب ذلك التخوف يفتقر إلى القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك “. وتضمن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس مزيد احترام مقتضيات النصوص الدولية.

كما نجد كذلك اتفاقية منظمة الوحدة الافريقية التي تحكم الجوانب المختلفة لمشاكل اللاجئين في افريقيا وكذلك توصيات المجلس الأوروبي المعنية بالحالة الواقعية للاجئين. هذا فضلا عن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال الميز العنصري، لما تثيره المسألة من هذا الجانب، إضافة إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وغيرها.

أما على الصعيد الوطني فإن درس هذا الموضوع يقتضي منا الوقوف على النصوص القانونية الداخلية المختلفة التي تعالجه، طالما أنه لا وجود لقانون واضح ودقيق وجامع لمسألة اللجوء في القانون التونسي، وإن كانت مسألة الإقامة لا تطرح في جوهرها إشكالا كبيرا من هذه الناحية.

 نذكر هنا القانون عدد 7 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية و كذلك القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر، ولمجلة الجنسية المنظمة بالمرسوم عدد 6 لسنة 1963 المؤرخ في 28 فيفري 1963 علاقة بهذا الموضوع، حيث أن فترة الإقامة القانونية إذا طالت قد تطرح معها حقوق اكتساب الجنسية التونسية من الأجانب بتوفر شروطها. ناهيك عن بقية النصوص القانونية الوطنية التي تحيط بمختلف نواحي موضوع إقامة أفارقة جنوب الصحراء في تونس على غرار مسألة الميز العنصري التي نظمتها أحكام القانون عدد 50 لسنة 2018 المؤرخ في 23 أكتوبر 2018 والقانون عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالبشر ونحوهما.

مع كثرة هذه النصوص القانونية الوطنية والدولية، التي أشرنا إليها، وتداخلها وتشعبها تقف المحاكم عاجزة عن تطبيقها. فإحالة أفارقة جنوب الصحراء من أجل تهم خرق قانون الإقامة وجواز السفر يصطدم بصخرة المعاهدات الدولية التي تحمي حقوق اللاجئين، وهنا يقف رجال التطبيق حول تفعيل التعريف القانوني للاجئ الذي وضعه مشرع دولي يعتمد التوسيع ما أمكنه ذلك، في مناط المفاهيم القانونية الحقوقية، لمزيد تعزيز منظومة حقوق الإنسان الكونية على حساب الدقة التشريعية المفترضة للنصوص القانونية الداخلية للدول الأعضاء التي تتسم بالصرامة والتشديد غالبا خاصة في علاقة بمفاهيم فضفاضة على غرار مفهوم النظام العام، أو خطيرة من قبيل الأمن القومي، والتي من شأن السلطات القانونية داخل الدولة أن تستعملها كمطية لمزيد التضييق على مجالات منظومة حقوق الإنسان الكونية التي هي مجموعة تراكمات وإرث ثقافي دولي ناضلت من أجله الشعوب.

لكن ذلك لا يجعلنا ننسى أن هذا التواجد المكثف لأفارقة دول جنوب الصحراء قد طرح مسائل مجال انطباق القانون الجزائي الذي يسوده مبدأ الإقليمية. خاصة في ظل اقتراف هؤلاء الأجانب لجرائم تنوعت، وهي لا تزال في تشعب مطرد، وإن كانت قد تصدرتها جريمة تكوين وفاق من أجل اجتياز الحدود البحرية خلسة أو المشاركة في ذلك نظرا لتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية فيما بينهم في تونس فأصبح هؤلاء المهاجرون منظمين لرحلات غير شرعية و كذلك جرائم تكوين وفاق بنية الاعتداء على الأملاك… وهي جرائم جماعية نوعية تشتد خطورتها، خاصة إذا ما أخذت في سياق جرائم سياسية أو إرهابية، فمن شأنها أن  تهدد لا فقط الأمن القومي وإنما كيان الدولة ككل وذلك خاصة إن صحّ ما بلغنا أن بعض المهاجرين قد شرعوا في تأسيس أجهزة موازية للدولة، في بعض المناطق التي تكثف تواجدهم فيها، بأن أقاموا مركز أمن ومحكمة خاصة بهم لفض الخلافات فيما بينهم وما يمثله ذلك من إرهاصات خطيرة تنبئ بتقويض أركان الدولة إذا لم تجد حلولا سريعة وناجعة خاصة وأن الإحصاءات الرسمية لأعداد المهاجرين إلى تونس متضاربة حد التناقض مما يفقدها مصداقيتها.

إن معالجتنا لهذا الموضوع هي مدخل لدراسة قانونية معمقة تراوح بين الجانب القانوني والحقوقي للمسألة والمستمد من ثقافة دولة قطعت مع نير الميز العنصري منذ سنة 1846، سنة إصدار أمر علي يقضي بإلغاء الرق، فكان لها بذلك السبق على دول تزعم أن لها اليوم الريادة في هذا المجال. فلا مجال، والحالة هذه، لمحاولة النفخ في رماد المقاربة التي ترى في طرق الموضوع إثارة لهذه النزعة.

غير أن الرصيد الحضاري والثقافي قد تنسفه تصريحات بعض المسؤولين والسياسيين وبعض الممارسات التي نحسبها شاذة لبعض الأفراد الذين لا يفرقون بين ما هو غث وما هو سمين في القانون الذي بالرغم من ثغراته يبقى نسيجا فكريا محكما نلتجئ إليه كلما التبست علينا الأمور ولهذا ارتأينا أن التطرق لهذا الموضوع هو من الأهمية بمكان وحصرناه في هذا النطاق، لذلك وبناء على ما سبق بسطه يمكن أن يثور التساؤل التالي:

 ما هو الإطار المنظم لإقامة لأفارقة جنوب الصحراء في تونس؟

للإجابة عن هذا التساؤل اخترنا التطرق إلى مسألة الإقامة القانونية لهذه الفئة التي لها أسبابها وعواملها وكذلك قوانين تنظمها، ونتطرق في جزء ثان إلى الإقامة غير القانونية لأفارقة جنوب الصحراء في تونس وما تثيره من مصاعب.

الجزء الأول: الإقامة القانونية لأفارقة دول جنوب الصحراء في تونس:

قد لا يكون من المبالغة بمكان أن نقول إن تواجد رعايا دول افريقيا جنوب الصحراء في بلادنا لا يخرج عن جملة من الوضعيات يمكن حصرها إما في الدراسة والبحث عن فرص عمل أو كذلك باعتبار أن بلادنا محطة في طريق العبور نحو الضفة الشمالية للمتوسط، وهو ما دفع المشرّع إلى إصدار عدد من النصوص القانونية المنظمة للإقامة الدائمة والظرفية للأجانب وعلى رأسهم الأفارقة من دول جنوب الصحراء.

تونس وجهة دراسية وتشغيلية ونقطة عبور نحو أوروبا:

تسعى أغلب دول العالم إلى التسويق لجامعاتها ومؤسساتها التعليمية لدى بقية البلدان لتشجيعهم على القدوم إليها ومزاولة تعليمهم فيها خاصة الجامعي، وليست بلادنا بمعزل عن هذه السياسات حيث اشتغلت الديبلوماسية التونسية بالتعاون مع عدد من النخب الجامعية ورجال الأعمال والأطباء، طيلة سنوات، على تدعيم هذا الخيار خاصة في افريقيا التي تجمعنا بها مصالح عديدة خاصة على المستويين الثقافي والاقتصادي.

ولعل العارف بالأوضاع الداخلية في هذه البلدان والمتابع لوسائل الإعلام فيها يدرك بلا شكّ حجم النجاح الذي حققته الدولة التونسية في استقطاب الطلبة الأفارقة من دول جنوب الصحراء سواء للدراسة في الجامعات التونسية الحكومية أو الخاصة أو حتى لدى بعض الهياكل التكوينية المتخصصة على غرار المعهد الأعلى للقضاء فضلا عن الشركات التونسية العاملة في افريقيا في مجالات متعددة على رأسها المقاولات.

لطالما مثل الطلبة الأفارقة سفراء لتونس في بلدانهم بعد عودتهم إليها فهم لا يخفون إعجابهم ببلادنا وبجامعاتنا ومستوى التعليم لدينا فضلا عن حب نخبهم السياسية للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بالنظر لمرجعيتهم الفرنكوفونية غالبا.

ورغم أن عدد الأفارقة جنوب الصحراء لم يكن كبيرا قبل 2003 ولكنه بعد ذلك التاريخ تغير تماما، أي منذ انتقال مقر “البنك الافريقي للتنمية” من “أبيدجان” عاصمة ساحل العاج إلى تونس حيث كانت مناسبة لانتقال موظفي هذه المؤسسة وعائلاتهم وعدد من أقاربهم إلى بلادنا انطلاقة جديدة أذنت بانخراطهم في المجتمع التونسي وممارسة أعمالهم ومهنهم ودراستهم في تونس.

ولكن منذ هذا التاريخ أيضا أصبح عدد الوافدين على تونس، من الأفارقة، لا يقتصر فقط على الراغبين في مواصلة تعليمهم أو الباحثين عن فرص عمل، بل امتد كذلك ليشمل الراغبين في الهجرة إلى أوروبا حيث خلقت شبكات تسفير نحو أوروبا مرورا بتونس نظرا للقرب الجغرافي، إضافة إلى سهولة إيجاد فرص عمل وإن كانت هشة لتجميع المال الكافي لتأمين عمليات الهجرة السرية نحو شواطئ ايطاليا بالأساس[1].

كان إرساء فضاء “شنغن” الأوروبي والذي فرض تأشيرات دخول، من الصعب على أغلب التونسيين ومواطني “دول الجنوب” الحصول عليها، سببا في تنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية من دول جنوب المتوسط نحو دول الشمال.

كانت الأمور تسير على ما يرام وتحت رقابة الدولة بأجهزتها المختلفة الأمنية والعسكرية والقضائية إلى حدود تاريخ قيام الثورة التونسية وتبعثر أوراق الإقليم سياسيا واجتماعيا ليتحوّل ملف الهجرة إلى تحدّ استراتيجي يهدد الأمن القومي التونسي يضاف إليه استتباعات الحرب الأهلية الليبية[2].

ولعل ما زاد الوضع تعقيدا جملة الاتفاقيات التي أبرمتها الحكومات التونسية المتعاقبة مع الاتحاد الأوروبي وخاصة مع الحكومة الإيطالية حيث استفاق التونسيون في 3 مارس 2014 على خبر ابرام حكومة المهدي جمعة اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي بعنوان “شراكة من أجل حرية التنقل” التزمت فيه الحكومة التونسية بإقامة معسكرات بالنسبة إلى المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم ترحيلهم من أوروبا بما في ذلك القادمين من دول جنوب الصحراء.

يضاف إلى هذا المستجد خيبة أخرى مني بها التونسيون بعد إبرام حكومة حمادي الجبالي سنة 2012 اتفاقا مع الحكومة الإيطالية التزمت بمقتضاه تونس باستقبال ما يزيد على 200 مهاجر غير شرعي على اراضيها قادمين من دول افريقيا جنوب الصحراء مرحلين من ايطاليا.

ولعلّه من المهم الإشارة إلى أنّ اتفاق “الشراكة من أجل حرية التنقل” لا يوفّر أي فرص حقيقية للتونسيين للحصول على تسهيلات في خصوص تأشيرات العبور إلى الفضاء الأوروبي باستثناء فئات معينة من ذوي المؤهلات العلمية والكفاءة المهنية العالية لكن هذا الاتفاق فرض التزامات عديدة على الدولة التونسية ليس أقلها لعب دور الحارس النجيب للحدود الجنوبية للقارة العجوز والتعاون مع الوكالة الأوروبية لأمن الحدود الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي “فرونتكس”، وصولا إلى التوقيع على اتفاق لإعادة القبول.

وكانت سنة 2014 كانت حافلة بالمستجدات، حيث اتخذ رئيس الجمهورية الأسبق محمد منصف المرزوقي قرارا بإلغاء التأشيرة على مواطني عدد كبير من الدول الإفريقية. ومنذ ذلك التاريخ شرّعت أبواب الهجرة إلى تونس بالنسبة لرعايا دول افريقيا جنوب الصحراء.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليست هنالك إحصاءات للهجرة غير النظامية التي تنطلق من دول شمال أفريقيا، وخاصة تونس، بالإضافة إلى أنّ المهاجرين من دول جنوب الصحراء لا يمكن تحديد عددهم بشكل حاسم باعتبار أنهم ليسوا مسجلين كلهم لدى منظمات الهجرة، وهذا ما يجعل معرفة الأرقام الصحيحة للمهاجرين انطلاقا من دول وسط المتوسّط نحو الشمال أكثر مما يصدر في بيانات وتقارير المنظمات الدولية[3].

ولعل من أبرز نتائج هذه الوضعية ما يمكن أن يحصل من اختلال بين حجم القوى العاملة في دول الاستقبال والضغط الذي يمكن أن تمثله في مقابل النقص في عدد الوظائف وفرص العمل دون أن ننسى التصحر الذي تخلّفه موجات الهجرة في دول الإرسال حيث يصعب تعويض القوى العاملة وأصحاب المهن والحرف والخبرات[4]

بالمقابل لا يمكن أن نغض الطرف على ايجابيات الهجرة الإفريقية إلى بلادنا حيث تمكّن من تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، إذا تم تسهيل دخول الأفارقة إلى تونس دون تأشيرة، إذ يمكن أن يزيد ذلك من فرص التعاون الاقتصادي والتجاري بين تونس ودول أفريقيا الأخرى شريطة أن تحرص الدولة على حسن ضبط الحدود ومعرفة أعداد وهويات وغايات القادمين من إفريقيا إليها وتنظيم حركة العبور.

ويساهم تسهيل دخول الأفارقة إلى بلادنا في تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين تونس وبلدان إفريقية عبر تسهيل حركة التبادل الثقافي والتعليمي والتجاري والسياحي.

النصوص القانونية المنظمة للإقامة الدائمة والظرفية للأفارقة في تونس:

يعتبر القانون عدد 7 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية النص المرجعي المنظم لتواجد الأشخاص الأجانب على التراب التونسي. ولعله من المفارقات العجيبة أن أول نصّ قانوني منظم لوضعية الأجانب في بلادنا كان دستور 1861 الذي جاء ليمنح الأوروبيين الراغبين في البحث عن فرص عمل في بلادنا الحق في ممارسة أي نشاط مهني مثلهم مثل أي تونسي، وذلك بهدف مقاومة البطالة والحدّ من دخول المهاجرين الإيطاليين بأعداد كبيرة إلى بلادنا وهو ما كان يهدّد مصالح المستعمرات الفرنسية آنذاك وهو ما نظمه الأمر العلي المؤرخ في 20 فيفري 1930[5].

وضع هذا الأمر العلي شروط دخول الأجانب إلى سوق الشغل التونسية وعلى رأسها وجود عقد شغل مؤشر عليه (الفصل الأول من الأمر العلي) إضافة إلى احداث بطاقة تعريف للأجانب والتي استثنى منها الفرنسيون (الفصل9 من الأمر العلي).

وفي 5 نوفمبر 1959 تم اصدار القانون المتعلق بحماية اليد العاملة الوطنية حيث قام هذا النص بتعليق العمل بالأمر العلي المذكور لمدة خمس سنوات (الفصل الأول من القانون) بهدف حماية اليد العاملة الوطنية وتمكينها من الخبرة والمهارة والمعارف اللازمة لتعويض اليد العاملة الاوروبية التي عادت إلى أوروبا بعد الاستقلال.

وبالعودة إلى النصوص المنظمة لإقامة الأجانب في تونس نجد المشرّع يفرّق بين نوعين من الإقامة:

  • الإقامة المؤقتة: وقد نظمتها الفصول من 9 إلى 12 من قانون عدد 77 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية. والفصول من12 إلى17 من أمر عدد 68 -198 المؤرخ في 22 جوان 1968 المتعلق بضبط تراتيب دخول وإقامة الأجانب بالبلاد التونسية.
  • الإقامة العادية: نظمتها الفصول من 13 إلى 17 من نفس القانون والفصول 18 و19 من نفس الأمر.

وجدير بالذكر أن هذه النصوص لا تنطبق على البعثات الديبلوماسية المعتمدة لدى الدولة التونسية باعتبار أنها تخضع إلى اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية المؤرخ في 18 أفريل 1961 إضافة إلى اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية المؤرخة 24 أفريل 1963.

يحدد قانون 1968 في الفصول من 5 إلى7 شروط دخول الأجنبي إلى تونس إذ لا يعتبر دخوله إلى تونس قانونيا إلا إذا كان حاملا لجواز سفر ساري المفعول ولتأشيرة قانونية.

يحدد الأمر عدد 198 لسنة 1968 أنواع التأشيرة إلى جانب السلط المختصة المكلفة بمنح هذه التأشيرات . و لا يسعى الأجنبي الذي يرغب في الدخول إلى تونس من أجل العمل للحصول على تأشيرة عبور نظرا لقصر المدة التي تخول لحاملها التمتع بها حسب الفصل 4 من أمر عدد 198 لسنة 1968 لا يمكن أن تتجاوز مدتها سبعة أيام بل يسعى للحصول على تأشيرة دخول.

تمكن تأشيرة الدخول حاملها من الدخول إلى التراب التونسي، وهي تحدد أجل وشروط الإقامة في تونس التي يجب ألا تتجاوز 3 أشهر مثلما ينصّ على ذلك الفصل 7 من أمر عدد 198- 1968″ : تنص تأشيرة الدخول على أجل الاستعمال وعلى مدة الإقامة المسموح بها والتي أقصاها ثلاثة أشهر” إذا أراد الأجنبي المكوث بالبلاد التونسية لمدة تتجاوز 3 أشهر فعليه الحصول على تأشيرة إقامة مؤقتة أو تأشيرة إقامة عادية. تسلم تأشيرة الدخول للبلاد التونسية من طرف الممثلين الديبلوماسيين أو القنصليات التابعة للبلاد التونسية بالخارج بعد استشارة كتابة الدولة للداخلية كما تسلم من طرف مراكز شرطة الحدود بالبلاد التونسية.

في حالة عدم وجود ممثلين للبلاد التونسية يمكن أن تسلم تأشيرة الدخول بالمراسلة و ذلك من طرف الإدارة العامة للأمن الوطني وذلك بصفة استثنائية كما ينصّ على ذلك الفصل 8 من أمر عدد 198 لسنة .1968  ويجب أن يتضمن مطلب الحصول على التأشيرة جواز سفر سار المفعول ونسخة من الصفحات الخمس الأولى لجواز السفر و 3 نسخ من المطبوعة المتعلقة بالتأشيرة و صورتان و معاليم التأشيرة.

رغم أن الحصول على تأشيرة الدخول هو شرط أساسي، ليكون الدخول إلى التراب التونسي قانونيا، إلا أن المشرع التونسي قد سنّ استثناء لهذا الشرط، فإلى جانب حالات الإعفاء من هذا الشرط بالنسبة للأجانب الموجودين بأحد الموانئ التونسية على ظهر باخرة في طريقها إلى الخارج طالما لم يغادروا الباخرة والأجانب المارون عبر الجو التونسي، وقد نص على هذا الاستثناء الفصل 7 من قانون 1968 الذي يؤكد على أنه :” يعفى من تأشيرة الدخول والإقامة لمدة ثالثة أشهر الأشخاص التابعون للدول التي أبرمت مع الدولة التونسية اتفاقيات في إلغاء هذه التأشيرة باستثناء من اتخذت في شأنهم قرارات طرد من البلاد التونسية أو من رفضت مطالبهم في الحصول على بطاقات إقامة أو منعوا من الإقامة بالبلاد التونسية أثناء إقامة سابقة”.

ويقيد الاستثناء من تأشيرة الدخول، في بعض الحالات، بشروط إضافية كامتلاك مبلغ مالي كاف من العملة الصعبة يغطي إقامة الأجنبي في تونس لمدة تفوق الـ 3 أشهر أو الدخول في إطار سفرة منظمة عبر إحدى وكالات الأسفار المعترف بها قانونا.

وفي حالات أخرى يقع التخفيف من الشروط المتعلقة بهذا الاستثناء مثلما هو الحال في خصوص المواطنين الفرنسيين والإيطاليين والبلجيكيين والسويسريين والألمان إذ يسمح للفرنسيين والحاملين لبطاقة تعريف فرنسية سارية المفعول الدخول إلى تونس في إطار رحلة منظمة لكن يجب أن يكونوا حاملين لوثيقة تثبت القيام بالحجز لدى أحد النزل التونسية وتذكرة عودة إلى جانب تحوزهم مبلغ من العملة الصعبة كاف لتغطية إقامتهم في تونس.

الإقامة غير القانونية لأفارقة جنوب الصحراء في تونس

لا يمكن الحديث عن مخالفة القانون دون تبيان صور ذلك وطالما كانت الغاية الأولى من النص القانوني هي تنظيم العلاقات بين الناس بأفضل صورة ممكنة كان لزاما علينا أن نطرح تصورات لحلول تشريعية وحتى خارج السياق التشريعي لتجاوز ما يطرحه هذا الموضوع من عراقيل اقتصادية واجتماعية وسياسية.

صور مخالفة القانون، الهجرة غير النظامية وخرق قانون الإقامة:

لئن كانت فئة غير قليلة من أفارقة دول جنوب الصحراء قد حلوا بتونس عبر دخول التراب التونسي بطريقة قانونية، أي بجواز سفر قانوني، وذلك لغايات دراسية أو مهنية أو سياحية، فإن عددا مهما منهم قد دخل التراب التونسي بطرق غير شرعية وذلك بتجاوز الحدود البرية أو البحرية خلسة وذلك أساسا عبر القطرين الليبي أو الجزائري المجاورين وفي ذلك خرق  لأحكام الفصل 33 من القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر الذي ينص على أنه : ” باستثناء ما تقتضيه الاتفاقات في المعاملة بالمثل أو الاتفاقات الخاصة يجب على كل أجنبي يرغب في الدخول إلى البلاد التونسية أن يكون حاملا لجواز سفر أو وثيقة سفر رسمية أخرى صالحة ومسلمة إليه من طرف السلط ذات النظر بالبلد الذي ينتسب إليه أو الذي يقيم به إذا كان عديم الجنسية أو يتمتع اللاجئون طبقا لأحكام الاتفاقيات الدولية الجاري بها العمل.

ويجب أن تكون وثائق السفر المشار إليها حاملة لتأشيرة دخول صادرة عن الممثليات الديبلوماسية أو القنصلية للبلاد التونسية إلا إذا نصت اتفاقات في المعاملة بالمثل أو اتفاقيات خاصة على خلاف ذلك… ”  

يتضح جليا من خلال أحكام هذا الفصل أن التواجد بتونس دون احترام هذه الموجبات هو تواجد غير قانوني. ومن خلال هذا النص فإن التواجد القانوني يقوم أساسا على صورتين فقط: الصورة الأولى هي الدخول بجواز سفر مؤشر عليه في صورة ما إذا اشترط القانون التأشيرة وذلك بالنسبة للدول التي لا تعفيها تونس من التأشيرة على غرار السودان وأنغولا والرأس الأخضر… عملا بقاعدة المعاملة بالمثل مهما كان نوع تلك التأشيرة (تأشيرة عند الوصول أو تأشيرة مسبقة…) وذلك مدة ثلاثة أشهر ثم تسوية الوضعية بتجديدها أو العودة إلى دولة الجنسية… أو دون تأشيرة مثل غامبيا أو غينيا أو ساحل العاج… أما الصورة الثانية فهي الانتفاع بأحكام القانون الدولي المنظم لوضعية اللاجئين والمكرس في عديد المعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس على غرار اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لسنة 1951  والمعدلة في 1967 وذلك تحت إشراف هياكل رسمية دولية على نحو المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والتي لها فروع بمختلف الدول الأعضاء بالأمم المتحدة والتي تقوم بصرف منح بصورة دورية لللاجئين الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية بأن يكون شخصا “ يوجد خارج دولة جنسيته ” بما يقصي كل من كان متحصلا على الجنسية التونسية إضافة إلى جنسيته الأصلية وأن يكون خروجه عن حدود دولته لأسباب جدية وخطيرة كأن تكون لتخوف من التعرض للاضطهاد “بسبب تخوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية” ومن صور ذلك الحروب التي تشنها بعض دول جنوب الصحراء ضد تنظيمات إرهابية موازية للدول كما هو الحال في النيجر والتشاد وكذلك الهروب من الدول التي ينحدر فيها الاستقرار السياسي إلى أدنى مستوياته فتكون مسرحا لانقلابات عسكرية متواترة في فترات زمنية وجيزة كما هو الحال في مالي وبوركينا فاسو والتشاد… الأمر الذي يجعل من دولة الجنسية غير قادرة على توفير حماية لمواطنها من جملة الأخطار التي تتهدد حياته أو سلامته أو لم تعد له الرغبة في البقاء في حماية دولته  ” وأصبح بسبب ذلك التخوف يفتقر إلى القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك “.

فبخلاف هذين الصورتين الأخيرتين لا يمكن الحديث عن إقامة قانونية وسيجد مواطنو هذه الدول أنفسهم موضوع تتبعات جزائية في مواجهة جريمة دخول التراب التونسي خلسة التي نصت عليها أحكام الفصل 35 من قانون حالة الأجانب التونسي والتي يتراوح العقاب فيها من السجن مدة 15 يوما إلى 6 أشهر   وخطية مالية أو إحدى العقوبتين.

ومن المؤسف أن عدد هؤلاء الأفارقة المهاجرين إلى تونس يقع الاحتفاظ بهم وإيقافهم من أجل هذه التهمة رغم أنهم يمثلون كتلة غير متجانسة، بمعنى أن وضعياتهم تختلف من شخص إلى آخر. فبين شخص لاجئ فعليا، دون أن يتحصل على بطاقة لجوء، وآخر دخل إلى التراب التونسي بصورة قانونية لكنه أضاع جواز سفره أو سرق منه أو احتجز عند مؤجره، وآخر تجاوز فترة الإقامة القانونية أي مدة صلاحية التأشيرة (3 أشهر) دون أن يتمكن من تسوية الوضعية. وهذا ما يقتضي التعامل مع ملفاتهم حالة بحالة ودون خلق توجه فقه قضائي معين أو سياسة جزائية تقتضي إدراجهم في سلة واحدة بأن تجعلهم في خانة عصابة مارقة عن القانون والحال أنهم في مجملهم حالات إنسانية تقتضي معالجتها بدقة قانونية بالغة.

ولا مراء في أن مسألة محاكمة هؤلاء الأجانب ذوي الوضعية الخاصة التي تحكمها مقتضيات الأمن العام والاستقرار الاجتماعي ما يثير القلق حول مقتضيات المحاكمة العادلة. فمثولهم أمام القضاء واستنطاقهم في ظل المحاكمات الجزائية أو سماعهم كخصوم في ملفات مدنية وتلقي ما لديهم من بينة كشهود أو التحرير عليهم ونحو ذلك يقتضي أساسا حضور مترجمين محلفين ينطقون بلغاتهم التي يتحدثون بها (والتي تحكمها كذلك لهجات ولكنات دولهم المختلفة) أو أداء اليمين القانونية لاختلاف دياناتهم وهو ما لا يتوفر لدى المحاكم من الإمكانيات اللوجستية والعنصر البشري لذلك الأمر الذي يجعل من محاكمتهم ناقصة ولا تتوفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة.

وفضلا عن المسائل المذكورة آنفا، فإنه لا يمكن أن ننسى خطورة آثار التواجد غير القانوني على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فقدوم أعداد كبيرة من مواطني دول أجنبية دون أن تستوعب هذه الأعداد إحصائيات رسمية من شأن ذلك أن يشكل ضغطا كبيرا على منظومة التغطية الاجتماعية في تونس ومنظومة الخدمات العمومية، كالخدمات الصحية والمالية والأمنية (المستشفيات ومراكز الصحة العمومية ومراكز الأمن والبريد…) والتي تعاني أساسا من نقائص كبيرة وشلل ناجم عن عجز ميزانية الدولة، مما سيفاقم الأوضاع أكثر ويعمق الأزمة التي هي في اتجاهها إلى أن تتحول إلى أزمة ديموغرافية  في بلادنا. فتونس اليوم، التي تهاجر كفاءاتها بنسق جنوني نحو دول الشمال للعمل والاستقرار هناك، تستقبل هي بدورها أعدادا غفيرة من مهاجرين يرون فيها ملاذا من بلدانهم أو محطة إلى الدول المتقدمة قد تطول فترة إقامتهم بها مع ما يترتب عن ذلك من تغيير في حالتهم الشخصية من خلال الوفاة والزواج وإنجاب الأبناء الذين ستترتب لهم بدورهم حقوق كثيرة وذلك في أطر غير قانونية.

كذلك فإن التواجد غير القانوني لأفارقة دول جنوب الصحراء يطرح إشكالات على مستوى تشغيل اليد العاملة الأجنبية من هذه الدول التي سعى عدد من التونسيين إلى الاستثمار فيها واستغلالها باعتبارها تمثل يدا عاملة زهيدة مما يطرح معه التساؤل والحالة تلك حول حقوق هؤلاء العملة في علاقة بمؤجريهم؟ وحقوقهم في صورة نشوب حوادث شغل أو أمراض مهنية، وغيرها، الأمر الذي يجعل من محاولة البحث عن حلول لهذه التساؤلات أمرا على غاية من الأهمية.

حلول لتجاوز الأزمة، بين صرامة الحل القانوني وليونة الحل الديبلوماسي

تفاقم الوضع غير القانوني لتواجد أفارقة دول جنوب الصحراء بتونس فأصبح من الممكن الحديث عن أزمة لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية حتى صار لزاما علينا البحث عن حلول لها.

وتتراوح هذه الحلول بين الحل القانوني، وما يتسم به هذا الأخير من صرامة وتشدد، إذ تنصّ أحكام الفصل 35 من القانون عدد 7 لسنة 1968 المتعلق بحالة الأجانب على أنه: “كل من يغادر البلاد خلسة أو يدخل إليها خلسة دون وثيقة رسمية تكون عقوبته السجن مدة من 15 يوما إلى 6 أشهر ودفع غرامة قدرها من 30 إلى 120 دينارا أو بواحدة منهما فقط “ وتطبيق أحكام هذا الفصل بكل صرامة وإحالة هؤلاء الأجانب من أجل الدخول غير القانوني للبلاد التونسية، وإن كان فيه احتراما لسيادة قانون الدولة التونسية الذي يقتضي تطبيق مبدأ إقليمية قانونها الجزائي على كل من هو على إقليمها، إلا أن فيه إهمالا لمراعاة العلاقات الديبلوماسية التي تربط البلاد التونسية بالدول التي ينتمي إليها مواطنو دول جنوب الصحراء والتي من بينها دول هي اليوم ترتقي سلم التطور، ولها سوق مشتركة وشراكات اقتصادية كبيرة مع تونس، وذلك دون أن ننسى الجالية التونسية الموجودة على أقاليم هذه الدول وذلك لغايات العمل والدراسة وهم مقيمون إقامة دائمة، فالتشدد في تطبيق النص القانوني فيه تجاوز لكل هذه الاعتبارات وهو تطبيق أجوف لنص القانون فضلا عن كونه لا يراعي مبدأ تفريد العقوبة، إذ كثيرا ما يجد القضاء نفسه بصدد إرساء سياسة تشريعية لا تفرق بين حالات مختلفة ولا تضع نصب عينيها سوى مسألة الأمن القومي و حفظ النظام العام، والحال أن هناك اعتبارات إنسانية وحقوقية كثيرة كان يجب الاعتناء بها خاصة وأن أغلب المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء في تونس هم مواطنون عزل جاؤوا لأغراض إنسانية ولم تثبت في جانبهم أية نوايا إجرامية مما يمكن الحديث معه عن عملية ” استيطان ” أو نظرية مؤامرة على أمن تونس القومي خاصة وأن الجهات الرسمية ما فتئت تكذب ما تعتبره إشاعات حول الأعداد التي يتداولها نشطاء في مواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي، ويعضها تتحدث عن تواجد قرابة الثمانمائة ألف مهاجر،  قد تكون لها مآرب سياسية ضيقة ولا يمكن الوثوق فيها كثيرا. فالمسألة في عمقها وجوهرها إقليمية سياسية وليست قانونية لذا فهي تحتاج إلى الحل السياسي الحكيم الذي يقوم على خطاب متزن ورشيد تتبناه السلطات الرسمية ويحسن تسويقه الإعلام التونسي داخل البلاد وخارجها.

في اعتقادنا يكمن الحل في استثمار هذا التواجد الإفريقي في تونس استثمارا سياسيا واقتصاديا وذلك بإقحام هؤلاء المهاجرين في سوق الشغل التونسية وتشريكهم في الدورة الاقتصادية من خلال سنّ نص قانوني يؤمن ضمانات دنيا في تشغيلهم بعقود قانونية ذات طابع خاص. وإدراجهم في منظومة الضمان الاجتماعي باقتطاع جزء من أجورهم لإنعاش موارد الصندوق، خاصة وأنهم يمثلون طاقة إنتاجية قوية وذلك بدل تشغيلهم بعقود “إذعان” في الظل بأجور ضعيفة ودون ضمانات. وهذا المعطى يمكن اعتماده من طرف البلاد التونسية كورقة ضغط سياسي لدول هؤلاء المهاجرين التي يمكن لتونس إذاك أن تطلب المعاملة بالمثل كأن تقترح على دول المهاجرين الاستثمار اقتصاديا في تونس بخلق مشاريع تنموية من شأنها حلحلة الوضع الاقتصادي بالبلاد.

ثم لا ننسى أن التنوع الديموغرافي، في أي بلد من بلدان العالم، هو مكسب حضاري وثقافي كبير من شأنه أن يمثل أفقا مشرقا نحو الانفتاح الحضاري على ثقافات دول عديدة. والحديث هنا عن دول افريقية هي في الأصل ذات تقاليد وعادات ضاربة في القدم. فإفريقيا القارة الأم هي ليست فقط مهد الحضارة بل هي مهد البشرية. وتواجد شعوبها على الأراضي التونسية على تنوع مشاربهم وديانتهم ولغاتهم وجنسياتهم لهي ثروة يمكن للبلاد التونسية أن تستثمر فيها بأن تسوق لنفسها سياحيا بكونها دولة حاضنة لكل شعوب القارة السمراء وما يتبع ذلك من تنظيم لملتقيات ثقافية رياضية وفنية وحتى أكاديمية علمية، وهو ما من شأنه أن يعيد إلى “افريقية” مثلما كان يطلق على بلادنا في الماضي قليلا من سالف أمجادها ومن الأسباب التي جعلت منها قطرا صغيرا تحمل اسمه قارة عظيمة.

 

[1]  Hakim (Abderrazek): « La condition des travailleurs étrangers en Tunisie » (Régime du Droit Commun), Mémoire pour l’Obtention du Mastère en Science Juridiques Fondamentales, Université de Carthage Faculté des Sciences Juridiques, Politique et Sociales de Tunis, 2005-2006, p 116.

[2] Katharina Natte: 2015. “Revolution and Political Transition in Tunisia: A Migration Game Changer?”, Migration Information Source – Migration Policy Institute, 2015.

[3]  هيثم بن زيد: اتفاقيات التعاون التونسية الأوروبية في مجال الهجرة: عندما تتحول تونس إلى حارسة للحدود الجنوبية لأوروبا، مقال منشور بتاريخ 25/06/2020 على الموقع الرسمي للمفكرة القانونية، أنظر: https://bit.ly/3yFDxPF.

[4]  عبد اللطيف شهاب زكري: ظاهرة الهجرة الدولية دراسة تحليلية لحركة الهجرة الإفريقية إلى دول الاتحاد الأوروبي، المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية، السنة السادسة، العدد السادس عشر، ص 12 .

[5]  أنظر الرائد الرسمي المؤرخ في 26 مارس 1930 ص 54

Skip to content