مقالات

قضاة يتساءلون: متى ستتوقف “مجزرة” القضاء التونسي؟

خولة السليتي
صحفية

“أن يتم اتهامك كقاضي بعدم تنفيذ أوامر من يعود إليه مرجع النظر، فتلك تهمة مهينة جدا بل مهينة حتى للقاضي الذي أحالني قبل أن تكون لشخصي، هي تهمة أعتبرها فضيحة بأتم معنى الكلمة ويشرفني أن لا أمتثل لأي أوامر من باب إيماني بأن القاضي مستقل ولا سلطان عليه إلا القانون”، هكذا تحدث إلينا القاضي رمزي بحرية أحد القضاة المعزولين بقرار من رئيس الجمهورية قيس سعيد، والذي تحفظّ عن التطرق إلى تفاصيل الملف لكونه يحمل صبغة إرهابية وهو لا يزال في طور التحقيق.

يقول بحرية: ” يؤسفني فعلا حال القضاء في بلدي، فأنا ضحية عدم تثبت السلطة من معطياتها طبق المسار المؤسسي الإجرائي وتمّت معاقبتي على تهمة كيدية دون تمكيني حتى من حقي في الدفاع، فالمهمّ للسلطة اليوم أن توجه تهمة وكفى.. هذا حال مؤسف للقضاء والجميع أصبح يخشى على نفسه من القضاء التونسي الذي بات اليوم تحت تعليمات”.

ولعل عبارة “تعليمات” هي أكثر كلمة رددها لسان قضاة تونسيين ونشطاء مجتمع مدني ومواطنون اختاروا أن يحتجوا ويرفعوا شعارات رافضة لما وصفوه بـ “قضاء التعليمات” ومنددة بتعسف السلطة التنفيذية وانتهاكها للسلطة القضائية بعد مرور عام على قرار رئيس الجمهورية إعفاء 57 قاض من مهامهم بمقتضى مرسوم رئاسي. ففي غرة جوان الجاري، دعت جمعية القضاة التونسيين وهيئة الدفاع عن القضاة المعزولين إلى تنظيم وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بالعاصمة.

تاريخ أسود في تاريخ القضاء التونسي

يقول أنس الحمايدي رئيس جمعية القضاة التونسيين: “هي ذكرى أليمة، فمن المفروض أن يبقى تاريخ 01 جوان يوما تاريخيا في مسيرة الدولة الوطنية لكونه يتزامن مع ذكرى عيد النصر 01 جوان 1959 وهو تاريخ دستور الجمهورية الأولى، ولكن من المؤسف أن هذا التاريخ الوطني تلطخ اليوم وأصبح يمثل تاريخا أسود في تاريخ القضاء التونسي لأنه اقترن بتاريخ الإعفاءات الظالمة لـ57 قاضيا دون ملفات أو حتى إجراءات مساءلة نزيهة وشفافة”.

ويرى حمادي الرحموني، أحد القضاة الـ 57 المعزولين، أن العدالة في تدهور اليوم وأنه يتم توظيف القضاء لتصفية حسابات مع الخصوم السياسيين، “فقد عدنا إلى ما وراء الوراء والوضع كارثي، لقد أصبح القضاة يعيشون حالة من الخوف والرعب جراء تهديد السلطة وعقابها الزجري والمباشر”، حسب قوله.

يؤكد الرحموني أنه تمت إحالة شكاية كيدية ومفبركة ضدّه دون فتح تحقيق فيها لوعيهم بوجود افتراء وكذب قائلا: “انا أستهدف بصفة مباشرة من أجل نضالي القضائي وانتقادي لما فعله رئيس الجمهورية من 25 جويلية، فأنا أعاقب من أجل ذلك”.

ويوافقه في ذلك القاضي المعزول رمزي بحرية الذي تحدث للمدنية، قائلا: “طيلة ممارستي القضاء من 2012، لم أشعر يوما بالتدخل في قراراتي القضائية ولم يثبت في ملفي خطأ وحيدا والمرة الوحيدة التي اكتشفوا فيها أني لا أصلح للقضاء هي بعد 25 جويلية”. فالمفروض قضائيا، حسب بحرية، أن لا يتم عزل أي موظف توجه له تهمة وإنما يواصل الأبحاث في حالة سراح وإذا تم إيقافه فهنا لا يوجد إشكال ولكن بالنسبة له وعدد من زملائه فقد تم عزلهم وهم في حالة 

سراح رغم أنه من المفروض والقانوني أن يباشروا مهامهم ويتم تطبيق قرارات المحكمة الإدارية التي أنصفتهم.

وفي هذا الصدد، يؤكد رئيس جمعية القضاة التونسيين أنهم مع مساءلة القضاة من باب قناعة الجمعية أن القضاة ليسوا فوق المساءلة ولكنهم مثل سائر المواطنين يخضعون لضمانات المحاكمة العادلة ولحق الدفاع ومن حقهم الدفاع عن أنفسهم والدفاع عن ملفاتهم. يقول حمايدية: “من تثبت إدانته عليه أن يتحمل مسؤوليته، ولن يجد أحدا يسانده.. نحن لا نريد أن ندخل في أي معادلة لأن معادلتنا الوحيدة هي الاستقلالية والحياد والنزاهة والي “عمل يخلص” ولكن بالقانون وليس بالتعليمات وما يحدث للقضاة المعزولين مجزرة حقيقية”، حسب توصيفه.

واستنكر القضاة المحتجون أمام قصر العدالة عدم امتثال وزيرة العدل لقرارات المحكمة الإدارية التي أنصفت 49 قاضيا من جملة 57 قاضيا معزولا. يقول حمايدية: “إلى حد اليوم في دولة القانون ودولة الإصلاح والديمقراطية والحرية، لا تطبّق أحكام المحكمة الإدارية والقانون .. حقيقة لا توجد مظلمة في كل دول العالم مثل المظلمة التي يتعرض لها القضاء التونسي بل الأخطر من ذلك أن يتم فبركة ملفات وإثارة ملفات أخرى مبنية على تقارير سرية”.

من جهته، جدد رئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعزولين المحامي عياشي الهمامي مطالبة النيابة العمومية بالاستماع إلى وزيرة العدل باعتبارها مشتكى بها في 37 شكاية جزائية لخرقها القانون”.

يقول الهمامي: “وزيرة العدل ترتكب جريمة مستمرة اسمها جريمة عدم تنفيذ أحكام قضائية، فمنذ 09 أوت الماضي صدرت أحكام بإيقاف التنفيذ ومنذ ذلك التاريخ ترفض الوزيرة تنفيذها رغم أن القضاء التونسي يعتبر عدم تنفيذ الأحكام فسادا ونوعا من أنواع الفساد الذي يعاقب عليه القانون”.

نحن لا نستحق هذا الاغتيال الاجتماعي”

وبعد مرور سنة على قرار عزلهم، يواجه القضاة المعزولون خاصة الذين أنصفتهم المحكمة الإدارية وضعا اجتماعيا صعبا.

يتحدث الرحموني: “تم إيقاف أجورنا وحرماننا من التغطية الصحية وكل حقوقنا، نحن نواجه اليوم أوضاعا اجتماعية تستدعي أن نشتغل ونكون في موقعنا”.

واستنكر محدّثنا بشدة حاله اليوم خاصة أنه كقاض منذ عقدين من الزمن تقريبا يعمل على إعادة الحقوق لأصحابها ويمارس القضاء بكل استقلالية ونزاهة، شأنه شأن زملاءه، قائلا: ” “نحن لا نستحق هذا الاغتيال الاجتماعي، هناك عملية تعليق لوضعنا الاجتماعي والمهني وهذا أمر لا يطاق فنحن مواطنون تعرّضنا إلى مظلمة كبيرة من السلطة التي تتمسك بنزع صفتنا وسلب حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية رغم أن القضاء الإداري أنصفنا”.

ويؤكد زميله بحرية: “الأرزاق بيد الله ولكن من واجب الدولة أن تحفظ كرامتنا كمواطنين وقضاة تعرضوا إلى مظلمة.. نحن كسائر المواطنين لدينا عائلات والتزامات وبيننا من الزملاء من لديه قروض بنكية وشيكات، الوضع لا يطاق فعلا”.

وبعد حسرة وألم، يستدرك القاضي الرحموني الذي التقينا به خلال الوقفة الاحتجاجية ويقول للمدنية: “لا حل لنا سوى أن نصبر على هذا الأذى ونصمد ولا نفرّط في كلمتنا وموقفنا ولا في حقوقنا ولن نبيع ذممنا للسلطة”.

وأمام استمرار أزمة القضاء، تواصل منظمة العفو الدولية فرع تونس ومجموعة من منظمات المجتمع المدني التنديد بقرار العزل الرئاسي الذي يصفونه بـ “التعسفي”. وطالبوا بإعادة القضاة المعزولين فورا إلى مناصبهم واحترام قرارات المحكمة الإدارية. كما اعتبروا القضاء يتعرض منذ 25 جويلية لهجمات مستمرة تهدف إلى تقويض استقلاله، مما ينتج عنه انتهاك الحق في المحاكمة العادلة.

كما نددت جمعيات نسوية باتهام قاضيات نساء بالزنا قامت المحكمة بتبرئتهن ومع ذلك لم تعتذر الدولة لهنّ ولم تفتح حتى تحقيقا بخصوص المعطيات المقدمة والشخص الذي قدمها لرئيس الجمهورية والذي تحدث بدوره في الموضوع راميا بقرينة البراءة وحماية المعطيات الشخصية عرض الحائط.

وتندّد جمعية القضاة التونسيين بتعطل المرفق القضائي وتأخير عدد من القضايا لوجود فراغات كبيرة في القضاء وهو ما يعطل مصالح المواطنين. يقول رئيس الجمعية: “في المقابل، بات القضاء في تونس اليوم يمشي بسرعة أخرى ضد أعداء الرئيس والخصوم السياسيين ولا بد من القطع مع قضاء التعليمات”.

واعتبر الأستاذ عياشي الهمامي أن المحاماة الحرة والمحامين والمحاميات الاحرار باتوا يشعرون اليوم بأنهم هم كذلك مقصودون بطرد وإعفاء القضاة والهيمنة على القضاء لأن “المحامي ليس في حاجة الى موظف في المحكمة وانما هو في حاجة الى قاضي يفصل في النزاع بينه وبين خصمه لذلك تبقى المحاماة في حاجة الى قضاء مستقل ولذلك نحن نقف مع القضاة المعفيين تطوعا”، وفق تصريحه.

في المقابل، تواصل السلطة ووزيرة العدل الصمت بخصوص أزمة القضاء.

Skip to content