ذكرت إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء أن نسبة التضخم لشهر جوان 2022 قد بلغت حوالي 7.8 بالمائة، وهي من أعلى النسب التي عرفها الاقتصاد التونسي خلال السنوات الأخيرة. ومن المنتظر نتيجة لذلك أن يفقد أجراء القطاع الخاص، خلال شهر جوان، في المعدل من أجورهم 36.8 دينار باحتساب أن معدل الأجور يبلغ حوالي 460 دينارا. أما بالنسبة لعمال القطاع العام والوظيفة العمومية ومع معدل أجور يبلغ حوالي 730 دينار فان ما سيفقدونه من مقدرة شرائية بفعل التضخم سيبلغ حوالي 58.6 دينارا.
الاحتكار ونقص الإنتاج
والحقيقة أن الأرقام المقدمة آنفا لا تمثل الحجم الحقيقي لإنعكاسات التضخم المالي ذلك أن نسبة 7.8 بالمائة لا تشمل سوى المواد التي توزع تحت رقابة الدولة، أما المواد التي تخضع للاحتكار وإلى مسالك التوزيع الخاصة فإن نسبة التضخم بها تصل إلى أرقام كبرى ترهق ميزانية المواطن. ويرجع الاحتكار وتزايد التضخم في الدائرة غير الرسمية إلى تلازم ظاهرتين وهما ضعف الرقابة على مسالك التوزيع وضعف الإنتاج. فعلى سبيل الذكر، تعود أزمة الزيت النباتي إلى أن استهلاكنا يورد في الجزء الغالب منه وأمام نقص التوريد يقل العرض وتكثر المضاربة ليرتفع سعر الزيت النباتي من 900 مليم مقترحة إلى أكثر من ثلاثة أو أربعة أضعاف ذلك السعر بالنسبة للمحظوظين. ونتيجة لهذا الارتفاع الجنوني لأسعار الزيت المدعم في السوق السوداء ومع فقدان المادة في مسالك التوزيع الرسمية استفردت ماركات الزيت النباتي غير المدعم بالعرض واستغل المصنعون الوضع ليرفعوا السعر ولكم أن تتصوروا أن سعر لتر واحد من أحد أنواع الزيت النباتي قد بلغ 80 دنانير بالتمام والكمال. والحقيقة أننا تعمدنا الاستشهاد بهذا المثل لنؤكد أن ضعف الإنتاج وضعف الرقابة يؤديان إلى حالة من التضخم ترهق المقدرة الشرائية دون أن تتمكن الدولة من حسابها. وعلى هذا الأساس فإنه يمكن القول بسهولة أن نسب التضخم الحقيقية تتجاوز بكثير ما يتم تقديمه من طرف هياكل الدولة على اعتبار أن ما يحدث في السوق حقا يتجاوز مقدرة الدولة على الرقابة والضبط واحصاء الأمور. وللتذكير فقط فإن تونس تشهد عجزا تجاريا يخص بالأساس المواد الغذائية التي شهدت خلال شهر أفريل 2022 ارتفاعا بنسبة 98 بالمائة كما ارتفعت واردات المواد المصنعة والمواد الخام والمنتجات شبه المصنعة. وهو ما يثبت تراجع أداء الألة الإنتاجية التونسية.
الركود التضخمي
إن الخطير في الأمر ليس مجرد تضرر المقدرة الشرائية بل استقرار هذا الأمر بما له من تداعيات اقتصادية واجتماعية. وإذا كان الأجراء، ومختلف الفئات الهشة من أصحاب المشاريع العائلية او المؤسسات متناهية الصغر، قد تضررت من التضخم بما يؤثر على الاستهلاك فضلا عن المنحى التقشفي الذي تعتمده الحكومة التونسية من خلال البرنامج المقترح لصندوق النقد الدولي، فإن أبرز مكونات الاستهلاك (العام والخاص) تشهد انخفاضا كبيرا يؤكد ان أحد محركات النمو قد يتراجع وينهك ويصبح بالتالي غير قادر على دفع الاقتصاد. إن هذا الوضع بالذات يحتم على الحكومة العمل بكل الجهد من أجل تجنب الركود التضخمي عبر فعل ما يمكن فعله من أجل دفع الاستهلاك عبر الزيادة في دخل الطبقة الوسطى وخاصة الأجراء (2.4 مليون أجير) وعبر الاستثمار العمومي وخفض نسبة الفائدة.
العقلانية السياسية
إن ما نحن بصدده يجرنا إلى الحديث للمرة الألف عن ضرورة حسن اختيار البرنامج الكفيل باستعادة نسق النمو. ويجعلنا نقف للمرة الألف أمام التحكيم القديم المتجدد ما بين استعادة النسق بالعرض أو بالطلب. عندما تحدث فيلفريدو باريتو في كتاب أسس الاقتصاد السياسي (1920) عن ضرورة الاختيار بين الشيوعية والراسمالية لمجتمع ما، قال الاقتصاد الصرف لم يمنحنا “آلية لحسم الجدل في أيهما أفضل للمجتمع التخطيط أم السوق” ويبدو أن السيد باريتو محق تماما إذ يجب ادخال عناصر جديدة في التحليل تمكننا من الحسم وهي عناصر سياسية. وبالعودة إلى المثال التونسي فإن الجانب السياسي مهم جدا ذلك أنه من الصعب جدا أن يتقبل شعب قد قام لتوه بثورة (11 سنة ليست مدة طويلة) من أجل تحسين وضعه المعيشي، خيارات حكومية تعمق أزمته الاجتماعية وتزيد في تعميق دائرة الفقراء، كما أنه لن يكون قادرا على الصبر، لأن السنوات العشر الأخيرة قد تكون استنزفت ماله من طاقة على الجلد. ومن هذا المنطلق فان الخيارات الاقتصادية الليبرالية وإن وقع تمريرها لن تكون مفيدة اجتماعيا ولا ناجعة اقتصاديا ما لم تكن لها حاضنة شعبية.
أما العناصر الأخرى التي قد تمثل مدخلا مهما للحكم والقدرة على التحكيم هي الأفضلية النسبية للاقتصاد التونسي ومرتكزاته الأساسية. فإذا كان الاقتصاد التونسي قائما بالأساس على العنصر البشري، وعلى الإنتاج الذي يضمنه هذا العنصر البشري الكفئ في الفلاحة والصناعة والسياحة، فإنه من المعقولية أن تسعى الدولة التي تتمتع بالحد الأدنى من العقلانية في طريقة إدارته للشأن العام إلى تعزيز رصيدها البشري عوض السعي إلى استرضاء رأس مال قد يأتي وقد لا يأتي. إن قدرة الاقتصاد التونسي على جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو قدرات منتجات تونس على المنافسة (خاصة المنتجات الفلاحية) يعود أساسا للعنصر البشري ولا لأي شيء آخر فهو عنصر بشري قليل الكلفة يمكن أي مؤسسة من تحقيق قدرات تنافسية عالية. وبالتالي فإن الرصيد البشري أجدر بالتنمية وهو ما يستوجب أولا رفع الدخل وتعزيز القدرة على المشاركة في الثروة انتاجا وتوزيعا. وفي الخلاصة فإنه لا سبيل لتونس للنهوض الاقتصادي غير التعويل على الاستهلاك ولذلك فان الحكومة مدعوة إلى التخلص من كل توجهات تضر بهذا الرصيد الاستراتيجي والتفرغ لدعمه في كل النواحي وأساسا دعم الخدمات الصحية العمومية والتعليم والنقل أي عبر السياسات التوسعية.
وقد يكون من المهم أن أدعو القارئ الى عدم الانتباه كثيرا الى اصحاب مقولة أن الاقتصاد يكتسب تنافسيته في جلب الاستثمار من الامتيازات الجباية والجنة الضريبية والموقع الجغرافي وغيرها من المميزات الجامدة التي لا تفلح في جلب الاستثمار ودفع تنافسية الاقتصاد خاصة وأن هناك دول أكثر براعة منا في تقديم مثل هذه الامتيازات والخدمات.