مقالات

ما بعد كورونا، هل مازال للرأسمالية ما تضيف؟ 

عبد الكريم الشابي

لقد تم الزج بنا منذ سقوط الجدار إلى عالم مصاب بالشيزوفرانيا يحثنا عن الحريات والحقوق كقيم إنسانية «كونية»،  لا يستغني عنها السوق من أجل الازدهار ومن ناحية أخرى لا يتوانى عن مصادرة حقوقنا في البحث والتدقيق في مشروعية هذا السوق وعن مكانة الإنسان فيه، وحتى محاولات «أخلقة»الاقتصاد المالي المعولم التي دعا إليها البعض بعد الأزمة المالية العالمية لأواخر العشرية الأولى من هذا القرن باءت بفشل مريع ودفنت في مهدها. مع مرور الاقتصاد المالي المعولم إلى أقصى درجات الربحية  والمراكمة على حساب قيم التعاون والتضامن والتآزر بين الناس وجدنا أنفسنا بصدد إعادة تشكيل العالم، حروب جديدة أساسا في المنطقة العربية وعلى مشارف روسيا، أعادت تدوير بعض الدكتاتوريات ونصبت دكتاتوريات جديدة متوافقة مع النظام العالمي الجديد وصولا إلى «ربيع عربي»لم يزهر شيئا سوى تخريب ليبيا وسوريا واليمن، مرورا بـ»الصين مصنع العالم». تأتي علينا إذا جائحة كورونا لتذكرنا بمدى تحكم «الأخلاق البروتستانية» في مصائرنا منذ انتصارها في صراع قيادة العالم.

إن من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها سريعا من تجاوب الدول مع أزمة الكورونا الجديدة هو أن هشاشة الوضع الصحي العالمي مرتبطة أساسا بسياسات التقشف في المصاريف العمومية من طرف مختلف الحكومات والكيانات اللبيرالية، يظهر ذلك أساسا في دول جنوب أوروبا مثل ايطاليا واسبانيا ومن ثمة فرنسا، هذه الدول تعاني من وجودها داخل الاتحاد الأوروبي ومن تحديد سقف تدخل الدولة في المصاريف العمومية من أجل مزيد المردودية والربحية للقطاع الخاص وقطاع البنوك والتأمين، ما دفع القطاع الصحي في فرنسا مثلا، إلى التدهور السريع واللجوء إلى الإضرابات والمواجهات مع القوات البوليسية قبيل أزمة الكورونا، والملاحظ أيضا هو أن حركة هجرة الإطار الطبي والشبه طبي في فرنسا نشيطة مثل ما هو الحال بالنسبة لنا في تونس. تتمحور مشاكل القطاع الصحي في ضعف التجهيزات واقتطاع الميزانية الذي يؤثر حتما على الانتدابات الجديدة إلا إذا كانت متأتية من الخارج، ففرنسا تعد جذابة إلى حد الآن بالنسبة لعديد الكفاءات في الجنوب. كذلك هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي يشترط فيها التمتع بتأمين خاص باهض الثمن إذا أردت الحصول على تغطية صحية جيدة مما دفع أحد المصابين بكوفيد19من متساكني نيويورك قبل الإعلان عن قانون الطوارئ إلى السؤال عن «من سيدفع ثمن وضعي تحت جهاز المساعدة على التنفس»وذلك لكي يقرر إن كان يريد هذه الخدمة أو لا. الوضع يبدو أكثر مأساوية عندما نعرف أنه بموجب قانون الطوارئ أصبحت المصحات تتقاضى 39ألف دولار من أجل وضع كل مريض كوفيد 19تحت جهاز المساعدة على التنفس في حين تكلف نفس العملية 4700 دولار فقط في الحالات الأخرى وهو ما يفسر جزئيا الارتفاع المفاجئ للحالات المبلغ عنها والتي تخضع للمساعدة على التنفس. هنالك مووضع خطير آخر تبادى لنا من خلال الهجمة والقرصنة من أجل الحصول على تجهيزات الحماية الشخصية كانت ضحيتها دول مثل ايطاليا وفرنسا وألمانيا والباربادوس والجاماييك وحتى تونس وكان أهم القرانصة هي الولايات المتحدة الأمريكية، الولايات المتحدة التي رفضت رفع الحظر عن مواطني الدول مثل كوبا وفينزويلا وإيران  رغم أن الأخيرة من أكثر الدول المتضررة ورغم نداءات الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريز، للتخلي عن هذه العقوبات القاتلة. في الولايات المتحدة أيضا شاهدنا طوابير سيارات لأكثر من30كيلومتر في انتظار المساعدات الغذائية كما شاهدنا أيضا في لاس فيغاس مساحات شاسعة من مآوي السيارات أعدت لينام فيها المشردون وهم عرضة للمرض عوض إيوائهم وقتيا في أحد آلاف النزل الفارغة في المدينة. رأينا أيضا كيف تم اختلاق ملايين المليارات من الدولارات بضغطة زر فقط لإنقاذ وول ستريت وشركاته العملاقة.

من المفارقات أيضا أن دولة صغيرة محاصرة مثل كوبا أرسلت آلاف الأطباء والإطارات شبه الطبية إلى كل من طلب منها ذلك من الدول وأن الصين أرسلت الإمدادات الى كل الدول بما في ذلك  الولايات المتحدة وبالرغم من ذلك فنحن لا نكاد نغفو حتى نستفيق مجددا على أخبار زائفة معدة لدق طبول الحرب على «مصنع العالم». هذه العنصرية لم تطل الصينيين فقط بل طالت الأفارقة، ضنا من بعض»الأورومركزيين»أنه يمكنهم الاعتداء على أهلنا في الجنوب واعتبارهم حقلا للتجارب.

لو أردنا الاختصار فالقول أن العالم اليوم يعاني من تغول القيم الربحية على قيم التعاون والتآزر والتضامن الإنساني ولا داعي في هذا المجال إلى التذكير بمآسي الاحتكار والمضاربة داخل البلد الواحد في المواد الأساسية مثلما هو الحال في تونس. في الواقع ليست هذه الأزمة سوى أزمة قيم الليبرالية التي تضع الربحية في أعلى سلم اهتماماتها فتهمل الإنسان لأنه لا يكون مجديا لها إلا إذا كان عملا نشيطا أو ثريا متعافى وفي كل الحالات عليه أن يكون مستهلكا نهما.

ونحن نقترب من انفراج هذا الفصل من الأزمة علينا أن نكون جادين مجتهدين في الدفاع عن قيم تعيد الإنسان إلى مركز العملية الإنتاجية والإبداعية والاجتماعية، علينا انتهاج مبادئ التضامن والتكامل بدلا عن التنافسية والربحية. للأسف يبدو من خلال التواصل الحكومي أننا سنكون على موعد مع المزيد من «التضحيات»والتقشف ومساعدة «المضاربين»سنكون مجددا على موعد مع النسخة المحلية المعدلة جينيا من «الأخلاق البروتستانية».

Skip to content