مقالات

نقاط النظام وخارطة الطريق 2

فطين حفصية
صحفي
طوت التدابير الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيد يومها المائة في انتظار الإعلان رسميا عن الملحق الثاني لخارطة الطريق  بعد الأحكام الانتقالية وتحديد ملامح إدارة المرحلة المقبلة استنادا إلى مداخلة له  فحواها اختصار آجال التدابير الاستثنائية وتصريح ثان لوزير الخارجية عثمان الجرندي مؤخرا لوسائل إعلام محلية كرر فيه أن الفترة الاستثنائية لن تدوم طويلا في ما يشبه بعث رسالة طمأنة جديدة أمام موجة المطالب المرفوعة بضرورة نزع كل ضبابية مفهومية أو زمنية للمرحلة المقبلة.
 
وإذا كانت الأحزاب وللمنظمات والهيئات قد وحدتها أرضية ما عرف بالتسقيف الزمني للفترة الانتقالية الجديدة فإن مخرجات الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل غادرت بشكل واضح مربع هذا التسقيف نحو توجيه “نقاط نظام” واضحة إلى مؤسسة الرئاسة تتعلق أولاها ب “ضبط مسار تصحيح حقيقي وإلى الإسراع بإنهاء الغموض المخيم على الوضع العام ووضع خارطة طريق تنهي المرحلة الاستثنائية وتحدد الآفاق بما يوفر شروط الاستقرار ومواصلة بناء الديمقراطية” ما يعني ضمنا أن الصورة الملتبسة مازالت قائمة حسب المنظمة الشغيلة وتستدعي خارطة طريق 2  لا تقبل التأويل للخروج من الاستثناء إلى الزمن والنص واضحي المعالم. 
 
ثاني نقاط النظام التي أتى عليها  لأول مرة  البيان هي “التشديد على وجوب النأي بالإدارة التونسية عن التجاذبات السياسية والتوظيفات الحزبية ومحاولات إخضاغها للولاء إلى السلطة التنفيذية والتأكيد على ضرورة احترام استقلالية القضاء ووقف هرسلة القضاة” وهنا اتجهت الفحوى رأسا إلى تحسس صداع مستديم في جسم الدولة و معاودة المطلب المتداول منذ 10 سنوات فيما يتعلق بتحييد المرفقين الإداري والقضائي عن كل ارتدادات التجاذب والاستقطاب الحاد لكن المختلف هو الحقل الدلالي المباشر  للصياغة و هو رفع كل  محاذير “التغول السلطوي” خصوصا مع الوضع الدستوري الهش للقضاء في الفترات الاستثنائية.
 
أما نقطة النظام المنهجية التي أطلقها الاتحاد في “تجديد خطابه” نحو مؤسسة الرئاسة فقد تقاسمها الأمين العام نور الدين الطبوبي والامين العام المساعد سامي الطاهري في تصريحات صحفية برفعهما مطلب ترشيد الخطاب السياسي وأخلقته “انطلاقا من اختيار الألفاظ والتعامل باحترام مع كل الأطراف” والتخلي عن خطابات الشحن والتجييش، وأتت التصريحات الداعية إلى “صلح لفظي”  بين رئيس الجمهورية وخصومه لمحاولة تنقية الأجواء أمام أي حوار مستقبلي مفترض وإن ظل الجانب الإجرائي لهذا الحوار محل تباين كبير.
 
تأتي هذه المتحولات في ” الإسناد النقدي ” لاتحاد الشغل لقرارات 25 جويلية/ 22 سبتمبر 2021  لتبعث فصلا جديدا في العلاقة بين الطرفين بعد دخول البلاد منعرج الشهر الرابع للتدابير الاستثنائية وقبل جولة مرتقبة من المشاورات مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن ستكون على طاولتها مآلات الاتفاقيات الممضاة مع الحكومات السابقة والمفاوضات الاجتماعية للسنوات الثلاث القادمة  وحالة الإنهاك التي بلغها  المواطن باهتراء قدرته الشرائية وتضاعف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية و”الإجراءات المأساوية” التي قد تفرضها الصناديق الدولية.
 
 الاتحاد سيكون هذه المرة عكس المناسبات السابقة أمام  “حكومة بنصف عمر ونصف قرار” فلا هي قادرة على تحديد مسار تخطيط زمني طويل ولا يدها التقريرية مطلوقة لمعالجة كل الأزمات المفتوحة فأقصى ما يمكن أن تفعله “هو تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية” وهو ما يؤشر إلى ان جبل الملفات المقابل للصلاحيات المحدودة للحكومة سيحددان مستقبل العلاقة القادمة بين الاتحاد وكل أطراف تراتبية السلطة التنفيذية : الرئاسة أولا ثم الحكومة وهنا مكمن السؤالين : ماهي المفاتيح التي يملكها كل طرف ؟ وكيف سيوضع السطر الأول لإدارة المرحلة المقبلة تمهيدا لوضع السطر الأخير ؟ 
    
الاتحاد والسلطة… قوة الحضور في الأزمات 
 
إن العاجل والآجل يطرح  أولا أمام رئاسة الجمهورية واتحاد الشغل عدم تمطيط حالة الترقب التي بدأت ساعتها الرملية في النفاذ، وإن تحدث الأمين العام نورالدين الطبوبي عن عدم وجود قطيعة بين الطرفين فإن مجرى الأمور يشير أيضا إلى علاقات باردة إلى حين كشف أولى المحادثات المباشرة بين الحكومة والمنظمة الشغيلة عن البوصلة الواضحة  لهذه العلاقة.
 
إذ يحمل سجل اللقاءات بين سعيد والطبوبي 11 لقاء رسميا لقاءان منهما بعد  25 جويلية فقط وهو العدد الأكبر في لقاءات رئيس الجمهورية مع المنظمات الوطنية والأحزاب فالرئاسة بحكم الأمر الوقع باتت تمتلك مفاتيح المبادرة  والاتحاد بيده مفاتيح الرقابة والضغط الإيجابي حد اقتناعهما أن أي سباق ثنائي بينهما  ل”تقاسم المناطق والنفوذ” سيفتح باب صراع غير مرغوب  بين الجمهور النقابي والجمهور الرئاسي الذي بدأ في التشكل بوضوح منذ 25 جويلية.
 
الأمر الثاني هو انطلاق الاتحاد من أرضية فكرية  وثقافية وبنيوية منغرسة في الذاكرة الوطنية والفعل المجتمعي وآخره الحوار الوطني الذي قاده مع الثلاثي المدني الآخر وأخرج البلاد من هوة أزمة سحيقة، وهذا  أمر يؤهله لمتابعة  التمازج بين دوره الوطني و مربع  نفوذه الاجتماعي النقابي في حين يمتلك سعيد وفق استطلاعات الرأي مخزونا شعبيا من الثقة يعطيه كل أشكال الدفع نحو  وضع رؤيته على الطاولة خصوصا مع تباعد الضفة المقابلة للمعارضة المشتتة إلى الآن رغم عرض القوة الذي تحاول بثه عبر الشارع.
 
ثالث المفاتيح يأتي من قدرة كليهما على “تنضيج” بناء المشروع الديمقراطي الجديد المنتظر في غياب الهياكل الدستورية التعديلية من برلمان ومحكمة دستورية واقتناع طيف واسع أننا كنا نعيش “وهما ديمقراطيا” عبر تلطيف العبارة أو “ديمقراطية فاسدة” عبر تضخيمها لكن بأي شكل أو صيغة  سيتم ذلك؟  فرئيس الجمهورية وضع لجنة من الخبراء لتعديل الدستور والنظام السياسي واتحاد الشغل دعا بدوره كوكبة من الخبراء للمضي في مراجعة الدستور وروافد الأنظمة السياسية ليبقى السؤال من سيحمل الراية المضمونية لكل عملية تغيير؟ وهل سنكون أمام نسختين معدلتين من الدستور والنظام السياسي المستقبلي؟ 
 
مرت تونس  بمناطق زوابع  عدة منذ 2011 لكنها حافظت على السقف الأدنى في ما عرف بثورات الربيع العربي إلا أن جملة الأخطار اختمرت الآن وأصبحت تهدد المالية العمومية والوضع الاجتماعي والاقتصادي الهش في سنة قادمة صعبة ما يجعل من  التطويق والاحتواء المرحلي لا يتم بيد واحدة، فالمرحلة تقتضي جردا دقيقا لمكامن الوهن عبر تصور وطني يخرج عن ثوب الحوار الكلاسيكي بين النخبة ويبتعد عن القرارات الفوقية أو الانعزالية أو محاولات المرور بقوة لأي مكون حكومي أو سياسي أو مدني حتى الوصول إلى السطر الأخير من المرحلة الاستثنائية. 
Skip to content