مقالات

وما أدراك ما الأحزاب

فطين حفصية
صحفي
في مقال بصحيفة لومند الفرنسية بتاريخ 2018/12/16 بعنوان 《تونس مريضة بسبب ديناصورات السياسة》نقل الكاتب جان بيار فيليو أن الأزمة التي طالت في تونس سببها  ديناصورات السياسة وأنانية الأحزاب بصراعهما على السلطة، وقاس مثال الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وقتها  92 عاما  ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي  79 عاما الذي انتهى بما سمي بتوافق الضرورة بين حزبي النداء والنهضة أو الجناحان الذان تطير بهما تونس حسب التوصيف المخملي للغنوشي.
رحل السبسي عن عالمنا وعن كرسي الرئاسة أياما قبل نهاية عهدته تاركا حزبا منشطرا و سار الغنوشي فوق أشواك الرفض نحو سدة رئاسة البرلمان الناعمة حتى انتهى به الأمر إلى تجميد النشاط والصد عن الدخول أمام الباب الرئيسي إلى قبة التشريع في صورة تاريخية مشبعة بالرمزية والدلالات… ومع هذه النهايات الدائمة والمؤقتة في المشهد السياسي التونسي بقيت ديناصورات أخرى كنقطة تقاطع الحاكمين والمعارضين وظلت الأحزاب التونسية التاريخية أو المستحدثة تتحرك في فضاء إسمي رافقها في غالب الأحيان  من البناء إلى التأسيس فالحكم أو المعارضة وإن بشكلانية انتخابية وديمقراطية.
ما دعا  إلى استدعاء فحوى المقال هو الحاجة إلى الاستخلاص الحتمي لصيرورة التاريخ والأحداث في التجارب القريبة والبعيدة عنا بالنسبة إلى عدد من “زعامات” عدد من الأحزاب فلعدم تأبيد الأزمات أو إطالتها في أحسن الأحوال بات لزاما على قيادات الطبقة الحزبية الثقيلة معنى وإسما والتي بلغت  “أرذل العمر” سياسيا أن تسمع صافرة النهاية جيدا وإن كانت السياسة لا عمر لها  و تسلم المشعل لغيرها ممن بلغوا سن “النبوءة الحزبية”  أو للشباب المتحفز للعمل السياسي الجديد أو بشيء من الدفع  استقطاب هؤلاء الذين يتخلفون عن الانتخابات ويتصدرون الاحتجاجات التي تهز شتاء تونس كل عام.
 
 يذهب المتابع للشأن العام هنا أن المعادلة صعبة لوجود خلل بنيوي كامن في النخبة السياسية والحزبية التونسية ذاتها ولوجود منطق البطريركية او الابوة الحزبية في التنظيمات والمكونات السياسية بيمينها ويسارها ووسطها –  ولا نحتاج هنا إلى ذكر أسماء هؤلاء الآباء الأصنام-  كعائق أمام التجديد الحزبي والديمومة القيادية  لكن فترة  السنوات العشر الأخيرة من الحرية الحزبية المطلقة وانتقال نشاط الأحزاب الجدية من تحت الأرض إلى العلن تخبرنا بنقاط التقييم والتقويم وأساسها أولوية الانتقال من أحزاب الآباء إلى أحزاب الأبناء أو المجموعة  فكيف يتم ذلك والحال أن التنظم الهرمي الحزبي يطرح آليات تداول مضبوطة في الشكل والزمن؟
 لا بد من التأكيد أن عملية التغيير التي ستعرفها بالضرورة عدة أحزاب في أعلى هرمها القيادي لن تتم بالاستقالات  الطوعية كحال التقاليد الحزبية الغربية فعند الهزيمة الانتخابية أو الاخفاق الحكومي أو الرجات السياسية الكبرى كالتي عرفتها البلاد في الخامس والعشرين من جويلية يبادر رأس الحزب المعني مباشرة بما جد  وبشكل تلقائي إلى المغادرة أو التراجع إلى الصف القاعدي وهو ما لم يحدث أبدا في تونس لا حزبيا أو برلمانيا  الآن ولا سابقا أو لاحقا إلا عبر أمثلة معزولة جدا  تكاد تكون مجهرية ما يجعل من حالة الديمقراطية الهرمية داخل أغلب الاحزاب التونسية أو الائتلافات والتحالفات الحزبية شبه شبه : شبه شخصية شبه مصلحية لكن المؤكد أن رياح الجمهورية الثالثة المفترضة ستأتي على رؤوس حزبية كثيرة في غابة الأحزاب التونسية الممتدة عدديا  وبدت بوادر هذا التغيير مسألة وقت لا غير.
                          
خبراء في إضاعة الفرص 
هذه الغابة الحزبية  تضم نحو 250 حزبا سياسيا وهو عدد “فقاقيعي” لا تحتمله  الساحة الانتخابية أصلا أو  الخارطة الإيديولوجية والمرجعية  للأحزاب ونكاد لا نرى هذا الشكل من “الازدحام الحزبي”   سوى في العراق أو ما تلا تحرر  أوروبا الشرقية من قبضة  المعسكر الشيوعي  بداية التسعينات.
 وإذا تابعنا  متحول 25  جويلية فسنجد أنه حرك حالة الجمود الحزبي الذي ظلت وتيرته تدور حول المرافقة البرلمانية والحكومية للبعض والمعارضة الراديكالية والهادئة للبعض الآخر  وتحويل قصر باردو إلى  ساحة وغى حزبي كما أنه أخرج بعضها من الغفوة والترنح بعد  مضي الرئيس قيس سعيد في خيار الفصل 80   الذي لم تتوقعه هذه الأحزاب رغم التحذيرات المتكررة لصاحبها حد أن عددا منها شكل قبل هذا التاريخ بأيام قليلة  مايشبه غرفة العمليات المشتركة للتعاطي مع حالة الجفاء الرئاسي للأحزاب والتهديدات المحتملة بتحركات احتجاجية اجتماعية تؤججها حالة وبائية قاسية اعتقادا منه أن الأزمات المفتوحة ستدفع  كل الأطراف قسرا نحو حوار وطني واسع ولو لربح الوقت أو التشويش على ما يجري.
القاسم المشترك بين هاته الاحزاب أن تحريك الراكد فيها جاء انفعاليا وآليا  فبعد ان كان لتباعد المسافات بين قصور قرطاج والقصبة وباردو  الأثر في خلق محاور حزبية تدور بين رئيس الجمهورية و ورئيسي الحكومة والبرلمان  أوقعت قرارات عيد الجمهورية الأحزاب وقياداتها في عملية  فرز إجباري وحيني فبتنا أمام ثلاثة مكونات : مكون 24  جويلية ومكون 25  ومكون الخيط الفاصل بين تأييد مشروط ومتحفظ، وعلى وقع ذلك وقفنا  بعد مرور عاصفة ردود الفعل الحزبية والمحلية والإقليمية والدولية  أمام حقيقة واضحة وهي أن الأحزاب وقادتها غادروا معادلة الفعل والتأثير تماما سواء كانوا  موالاة أومعارضة.
ولتدقيق الصورة لا لقاءات رئاسية مباشرة أو غير مباشرة انتظمت معها ولا خرائط طريق أو مقترحات تم النظر إليها ولا تصريحات ومراجعات البعض الآخر منها وضعت في الاعتبار  ولا هي نفسها فتحت حوارا شاملا داخل هياكلها وقواعدها أو اتجهت نحو العمل الجبهوي والائتلافي بغاية توسيع قاعدة التصرف ولا بعضها قدم ما يمكن فعله مستقبلا باستثناء التصاريح الصحفية التي  ظلت تكرر ضرورة رسم خارطة طريق وإعلان حكومة مايجعلها وكأنها  تومض بضوء خافت وليس بمواقف واضحة يبنى عليها.
 
أضاعت الأحزاب الفاعلة  مرة أخرى فرصة إثبات الذات كمجموعات اجتماعية تستخدم في تنظيم النشاط السياسي في عالم يضج بالتعبير والتغيير عندما تابعت الانشغال بالخصومات السياسية بدل تنازع الأفكار والبرامج والانجازات وأثبتت العديد منها أنها أحزاب على الورق لا على الأرض إذ تقول الأرقام التفاعلية بين الأفراد والأحزاب أنه  لا يثق بها سوى 18% بالمائة من التونسيين وفق أحدث استطلاع للرأي كما أنها انكفأت هذه الأيام في ما يشبه صمت القبور حول ما يجري  وما يطرحه الرأي العام  والخاص  من أسئلة تتعلق بما أتى وسيأتي.
 
 هذه الهوة  تفرض مراجعات تنظيمية وهيكلية وديمقراطية داخلية ربما تصل حد الألم المعنوي التنظيمي لأجل إنشاء قواعد دعم فاعلة وبنية انتخابية مستدامة للمحافظة على وجودها  لكن ذلك لا يعني في المحصلة “استئصال”  منظومة الأحزاب كنواة فاعلة في الشأن العام أو السير في الطروحات القائلة بحياة سياسية دون أحزاب تنظم حركة سيرها لكن مع الأخذ بمحاذير المقولة النيتشوية《الإنسانية عاشت حتى الآن على عبادة الأصنام : أصنام في الأخلاق وأصنام في السياسة وأصنام في الفلسفة》.
Skip to content