مقالات

الحماقة الرقمية

فطين حفصية
صحفي

تحتفظ المدونة الشعرية والنثرية والاجتماعية العربية بإرث تناول الحماقة كآفة أو ميزة أو تعبيرة فولكلورية عن الوضع السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو حتى الرياضي في بلد ما، وهناك من يذهب أبعد من ذلك إلى تبويبها مفاهيميا إلى حماقات تاريخية التصقت بأحداث مفصلية في بلد ما أو وضع محدد.

يعرف الأحمق لغويا في المعجم الوسيط أنه اشتقاق من حمق حمقا وحماقة أي قل عقله، فهو أحمق وهم حمق، وحمقت السوق كسدت وحمقت تجارته بارت، فالحمق هو قلة العقل وكساد التجارة وبوار السلع، أما من حيث المعنى فقد عرف إذا أطلقت العبارة على شخص ناقص العقل والتصرف وأنه يغضب من أي شيء ويتكلم دون منفعة ويفشي السر ولا يفرق بين عدو وصديق، وهو ليس بالجاهل عكس ما يفهم آليا.

يقول شاعر العرب الأول أبو الطيب المتنبي في بيت شعري سياسي شهير : لكل داء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها،  في إشارة إلى أخطر أنواع الحمق التي لا سبيل إلى علاجها، ويذهب رابع الخلفاء علي بن أبي طالب إلى القول بشكل قاطع عن ضرورة القطع مع الحمق ” الرجال أربعة رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فذاك عالم فاتبعوه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم فذلك نائم فنبهوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم  فذلك جاهل فعلموه ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فذلك أحمق فاجتنبوه”.

وحتى يرسخ العرب علامات الحمق كآفة كتب أبو الفرج الجوزي مؤلفا كاملا بعنوان- أخبار الحمقى والمغفلين – وضربوا منذ الجاهلية مثلا ذهب في الأرجاء فحواه “أحمق من هبنقة ” الذي كان من حمقه أنه كان يرعى غنم أهله فيرعى السمان في العشب وينحي الهزيلة جانبا، فقيل له ويحك ما تصنع !!! قال لا أفسد ما أصلحه الله ولا أصلح ما أفسده.

 ولو كان للعرب وقتها في كل عصورهم و- هم من ابتدعوا البريد كمؤسسة – ما يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي لذهب الحمق الرقمي إلى أبعد مدى له نقلا وقصا وصورا ونثرا وشعرا وإبداعا وإخبارا، أما إذا ضيقنا المجال الجغرافي نحو تونس فنجد دون مقاربة سوسيولوجية دقيقة أن القاموس التونسي المحلي من أثرى المراجع بالعبارات المرادفة للحمق والحماقة منذ القديم، ويتعداها إلى مقاربات تشبيهية بالحيوان أو المادة فنجد الأحمرة أعلى الترتيب وولد الآتان الجحش في أدناه.

 فبين مدينة تونسية وأخرى أو قرية وأخرى تجد منجدا معرفيا خاص بالحمق والغباء عبر سلسلة توصيفات مختلفة تسمعها يوميا في الشارع الحقيقي أشهرها عاميا هي : ” بهيم، جحش، بوهالي، بهلول، مخرتل، متوكي،  درويش، متروش، مصتك، مبوشي، قفلة، في مخو جرانة، في مخو كنتولة، دغفة “… ومهما يمكنك من تعداد فلن تستطيع إقفال هذا المعجم التونسي الخالص الذي انتقل من الشارع اليومي إلى الشوارع الافتراضية في شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصا في الفايسبوك الذي يتجلى غبار معاركه بين من يتنابزون بالحمق عبر تقسيم عجائبي سياسي تصنيفي مقارن بين “جماعة القرط” و”جماعة العلفة”.

ومن المصادفات الجغرافية الفارقة لهذا النبش المفاهيمي والاجتماعي التاريخي والفايسبوكي أنه يحيلنا على فيلسوف إيطالي ولد بتونس في العام 1956 وإسمه ماوريسيو فيراريس Maurizio Ferrari  وقد كتب مؤلفا كاملا بعنوان – الحماقة  شيء جدي – واختص في مبحث كامل حول الحماقة.

يتحدث ماوريزيو عن ” حماقة الجمهور ” مقابل ” حماقة النخبة ” ولكل منها خصائصها في الفضاء الرقمي الذي جعل العالم قرية مصغرة، واعتبر أن الأحمق الرقمي دون عصا أي لا سلاح له فهو بالتالي كائن ضعيف لا حول له ولا قوة في أي مجال يتلقى كل شيء في القنوات الافتراضية الاجتماعية التي يبحر فيها دون رادع، وفي هذه الحالة لا يمكن لأي منا أن يكون ضحية حماقة ما كحال حديثنا عن ضربة جنون واضحة فالفرق كبير بين الحماقة والجنون.

أدرك الأستاذ المتميز بجامعة طورينو فيراريس باكرا أن التكنولوجيا الرقمية أصبحت تشغل الرأي العام ونقاشات المختصين وصالونات الاقتصاد الكبير فمنتدى دافوس مثلا تحول سنويا إلى منصة نقاش بين ” كبار التكنولوجيا الرقمية ” لتحديد خرائط الطريق الاتصالية العالمية، في حين تسير كبريات الشركات الدولية المسالك المرورية للفضاء الرقمي والتواصلي وتحرك أمواج الجماهير والنخبة معا، لتنبع من هذا المعطى أسئلة حارقة يطرحها بكل تفرد وجرأة معرفية أهمها :

هل أن للحماقة كل هذه القوة؟

كيف أصبح الهاتف الجوال ولوحات القيادة والكتابة في أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا هما ” المشيدان الكبيران لحياتنا الاجتماعية “؟

يقود ذلك إلى استنتاج أكثر تعقيدا حسب الفيلسوف الآيطالي وهو أن الهاتف الجوال يصبح في هذه الحالة “الوسيلة المطلقة” للكلام والتعبير فهو يسمح لك بالكلام وقت ما تشاء وحيثما كنت ومع من تريد وهو ما يتعارض مع القول الأفلاطوني” إذا كانت لديك القدرة على الكلام فلا حاجة لك للكتابة” .

ورغم أن فيراريس استخلص أن الأنترنت هي وسيلة للنمو البشري ولا وجود لمثيل لها إلى الآن في تاريخ الإنسانية، فإنها أتاحت الدخول للمعرفة دون حدود عكس ما كان سابقا باعتبار أن المعارف كانت نخبوية أساسا، وأسقطت كل جدران التمييز والرقابة ليس بمفهومها التقني البحت لكن بمفهومها الانتقائي فأصبحنا أمام ما يشبه “الغابة” من المتدخلين في الفضاء الميديائي الاجتماعي حد أن شبكات التواصل أصبحت تتيح لنا  في نفس الوقت أن نرى من هو مبحر ومن رأى رسائلنا وهو ما سماه علميا وفلسفيا ب “التعبئة العامة” ليقترب من المقولة الأرسطية القديمة أن “الإنسان حيوان اجتماعي وله توق جارف للكلام”.

وبعد أن كان الإنسان في الماضي يتكلم مباشرة أصبح يكتب ويتكلم في آن واحد عبر هذا الجهاز السحري وهنا مكمن المخاطر التي لا تنتهي وهو ما يقترب مما مضي فيه الفيلسوف الإغريقي عند محاكمته الشهيرة إلى التحذير الصارم من الاستماع إلى العوام لأن《 آرائهم ما هي إلا أوهام ستقود المدينة إلى الضلال، وما هذا القول إلا نموذج مجهري لدخان المعارك الفايسبوكية في تونس.

حلبة الصراع الرقمي أومن كان الأحمق؟

إن “تسونامي” الكتابة والكلام في وسائل التواصل الاجتماعي في تونس أتاح نوعا من الإسهال أمام الجموع أو الحشود الجارفة في المنصات فأمام هؤلاء “العامة” وفق فيراريس انفتحت كل سبل الحديث والنقاش في الشأن العام، وصارت الجماهير تسير جملة انفعالات وردود فعل غير محسوبة خصوصا في اللحظات العاطفية الكبرى أو المشاعر أو عند تحريك النعرات على اختلاف تصنيفاتها لغوية أو جهوية أو رياضية أو ثقافية أو جندرية أو قومية.

يمكن أن ترى في شبكات التواصل الاجتماعي عبر الكتابات أو الفيديو أو التعاليق أو الصفحات محاكمات شعبية مثلا لشخص أو مجموعة أو حزب أو منظمة أو قطاع أو فئة أو جهة أو فكرة أو وجهة نظر، كما يمكن أن ينخرط أحدهم طوعا أو خوفا أو منفعة أو مصلحة أو انفعالا في أي “معركة” دون أي عقلانية، بل بمشاعر فياضة وانطباعات ومواقف دون سابق تعمق أو تقدير، والأخطر هنا حين يتحول “الضغط” أو ما يمكن توصيفه بالهبة الفايسبوكية إلى نوع من الديماغوجيا الحادة التي تقود صانع القرار مثلا إلى اتخاذ قرارات تصدرها ساحات النقاش العام الافتراضية وتسيرها خوارزميات وقبائل تواصلية.

ولصورة مجهرية مما يجري في العالم يلحظ المتابع للحوارات التي تدور في شبكة الفايسبوك في تونس أيا كان موضوعها دون عناء كبير أنها تتحول إلى “حلبة صراع” وثلب وشتم وتعد على خصوصيات وتنابز بالألقاب وتنمروأحيانا أخرى إلى خطابات كراهية وتحريض وعنف رمزي و”اغتيال معنوي” لأشخاص نالوا كل أصناف السحل الافتراضي.

أحدث مثال ل” توازن الرعب الفايسبوكي ” في تونس المعركة الافتراضية المفتوحة منذ تدابير 25 جويلية بين من يتبادلون توصيفات التنابز من “جماعة العلفة ” في إشارة إلى أنصار حركة النهضة وضواحيها الآيديولوجية والشق المناهض إجمالا لهذه التدابير و”جماعة القرط ” في تدليل على أنصار رئيس الجمهورية قيس سعيد والمحيطين بما يسمى المسار، وهو ما يعني مجازا أن الفريقين يشتركان عند الخصام الافتراضي في التهام ما تأكله عدد من الحيوانات العاشبة وما يصاحب ذلك من إيحاءات بالحماقة الواقعية ومن ثمة الحماقة الرقمية وذلك هو الحمق الجماعي حسب الفيلسوف الإيطالي.

لقد تحول الفضاء السيبرني في تونس إلى محدد للعلاقات الاجتماعية الواقعية بين الأفراد فكم سبب الانتماء إلى “جماعة القرط أو العلفة” من صراعات وخصامات داخل العائلة أو الحي أو القرية أو المدينة أو المساحة المجتمعية التي يتحرك داخلها المتخاصمون الافتراضيون، فبمجرد نقرة زر وسط أجواء الحرية العامة لا وجود لحصانة أي كان ولا حدود بين المعرفة والجهل والأخلاق واللأخلاق.

يذهب الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco  في مقابلة مع صحيفة لاستامبا الإيطالية La Stampaإلى القول 《 إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن يثرثرون في الحانات فقط دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع،  وكان يتم إسكاتهم فورا أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحملون جائزة نوبل إنه غزو الحمقى 》.

  هذه المقولة المحملة بمعاني الاستعلائية الصارمة والتفرقة الجماهيرية و” الغضب ” من التطورات التكنولوجية تقترب مما يفككه فيراريس، فقد فتحت قنوات التواصل مجال التعبير للجميع دون علامات مرورية تنبيهية، وباتت التكنولوجيا مثلما هي نعمة جزء من النقمة أو من ” الخطر الداهم”.

 فالحماقة الرقمية تنطلق من البسيط إلى المركب وتتحرك دون جواز سفر أو تأشيرة بالمعنى المجازي للتوصيف وهنا تحدث مثلا ماوريسيو عن الصراع الذي جدبين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والكوري الشمالي كيم جونغ أون والذي كاد أن يؤدي إلى حرب نووية أو عالمية ثالثة باعتبار أن الغباء هي الكارثة الوحيدة  التي لا نبكي على نتائجها، ولمزيد شموليتها تحدث عن ” رأسمالية رقمية ”  بدأت الحماقة تتسيد مجالاتها الواسعة.

Skip to content