مقالات

الوليمة الجماهيرية

فطين حفصية
صحفي

يعيش المواطن التونسي يومياته على وقع ارتفاع الأسعار وفقدان عدد من المواد الأساسية و” فقر” مائدته الغذائية بعد التهاب أثمان اللحوم  الحمراء والبيضاء والأسماك الزرقاء والبيضاء عموما وأصناف من الخضر والغذاء خصوصا، فلا تكاد أحاديثه اليومية في الفضائين العام والخاص تخلو من هذه الآنية الحياتية وتداول أسبابها ونتائجها، ومنذ أعوام ظل يلاحق اهتراء قدرته الشرائية وهموم التداين وتصريف شواغله بما أتيح له من طرق الرصيد الأحمر وتسبيق يومه على غده لكنه وبمنطق “العناد مع الواقع” يغطي الأمر الآن  بوليمة من صنف آخر لإشباع جوعه البيولوجي.

إن كل الحكومات التي عرفتها البلاد منذ 2011 وعددها 10 – دون احتساب تغييراتها الجوهرية أحيانا-  لم تحتك فعليا بهذا المشغل الاستثنائي رغم حديثها شبه اليومي عنه وآخرها هذه الحكومة التي باتت تحت نظر رئيس الجمهورية وسلطته، إذ يحفل “معجمه” اليومي في لقاءاته الوزارية وكلماته السياسية  بضرورة وقف ارتفاع الأسعار والتصدي للاحتكار ومراقبة بورصة الأسواق وتوفير المواد الضرورية و تنفيذ ما تم إقراره من توصيات لكن لا حياة لمن تنادي على أرض الواقع ولا أفق يقترب لإنهاء هذه “العدوى الأفقية”  المستمرة منذ سنين والتي نالت من الجيب المريض للمواطن بطبعه.

تشير إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء المنشورة على سبيل المثال أن متوسط معدل الاستهلاك السنوي للفرد حسب مكان الإقامة قفز من 1424 دينارا سنة 2000 إلى 3871 سنة 2015، أما هيكلة مصاريف الأسر حسب وظائف الاستهلاك فقد قفز مجموع نفقاتها ( تغذية  وسكن  وملابس ومشروبات كحولية وتبغ ونقل واتصالات ونفقات أخرى …) من 716 دينارا سنة 1990 إلى 3871 سنة 2015 وهي أرقام تدق جرس ” الارتفاع الشاهق في التاريخ  

في المصاريف التي قد تقترب من النسب الفلكية عند تحيينها لهذا العام من قبل المعهد الوطني للإحصاء..

أعمق من ذلك يختصر هذان الرقمان لتطور مؤشر الأسعار للاستهلاك العائلي حسب سنة الأساس حالة الاستنزاف الشهري التي وصلت إليها العائلة التونسية  ففي فيفري 2022 بلغ الرقم 2142 فاصل ثمانية مقابل 2304 فاصل سبعة ما يعني أن هذا المؤشر اتخذ منحنى حادا بما يقرب من 200 نقطة في غضون 8  أشهر فقط وأكدت بصفة ميكانيكية إتمام نسبة التضخم لسقف 9%  وهي أرقام مخيفة تبين حجم الأزمة المعيشية والاقتصادية التي تعرفها البلاد وزادت من مضاعفاتها ارتدادات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وتقطع الأنشطة التصديرية المهمة وعلى رأسها الفسفاط وخسارة أهم الأسواق العالمية والحرفاء التقليديين.

لا يكاد يخلو منبر حواري إذاعي أو تلفزي أو مكتوب أو إليكتروني من تداول الملف الاقتصادي “الساخن” المتعلق بتآكل ما تبقى من مقدرة استهلاكية للفرد وتقليب هذه الإحصاءات المحينة، ويرمي الخبراء والسياسيون والفاعلون في الشأن العام بحلول تنتقل وفق الظرف والخصم السياسي أو الإيديولوجي،  أما وقد بتنا على مسافة خطوات زمنية قليلة من كأس العالم المرتقبة بقطر فقد خفتت لغة الاقتصاد  وتغيرت الموجة الحوارية بسيطرة لغة كرة القدم وتساقطت هذه الأرقام الاقتصادية  بشكل مؤقت أمام أرقام اللاعبين، وللتخلص من عبء المشاغل الحياتية اليومية تحولت اهتمامات الفرد – المشجع – المنهك اقتصاديا إلى الوليمة الجماهيرية المحبذة وهي هذه المسابقة العالمية ومشاركة الفريق الوطني في فعالياتها.

خفت “الالتراس الاحتجاجي الاجتماعي” على غلاء الأسعار حيث كان يجمع شتات ما تبقى من طبقة وسطى وبعض الناطقين باسمها ودانت السيطرة لـ “الألتراس  الكروي” ولكن بنفس الجمهور المستهدف، وليس الأمر بمفتعل أو رهين سياسة دعائية “غوبلزية” توجيهية للجماهير، فهؤلاء المشتكين أنفسهم تناسوا مشكلاتهم طوعا  لفائدة اللعبة الجماهيرية الأولى في تونس وعدد كبير من دول العالم لينضموا إلى قافلة “كيف ينبغي أن نكون تونسيين” ونوحد صفنا وكلمتنا أمام الزي الوطني والوطن حال دحرجة أول كرة في أول مبارياتنا ضد المنتخب الدانماركي في 26 من هذا الشهر.

انتقل هؤلاء سريعا في نسبة مئوية كبيرة منهم إلى مطاردة أخبار قائمة المنتخب بعد أن كانوا يطاردون لائحة الأسعار وتتبع آخر الأنباء الواردة عن استعدادات المجموعة وتوصيات المدرب الوطني بعد أن كانوا قبل أيام يتابعون وصول المواد المفقودة في الأسواق أو اقتراب حلولها ومسار طريقها، لقد أحكمت كرة القدم والنزعات العاطفية الجماهيرية للفرق التقليدية طوق النشاط الجماهيري فأصبح يتكلم تشكيلة أساسية وخططا تكتيكية ولاعبين يستحقون دعوة لتمثيل المنتخب بدل مواصلة مناقشة شأنه المعيشي والطريق الذهبي لتجاوزه  فالوقت ليس وقت  “هموم” بل وقت  جرعة تنفيس وحشد كروي يكتمل رصه بتاريخ أول مباراة في المشاركة السادسة لتونس في مسابقة كأس العالم.

لن نكون كحال البلد الذي تتمازج أوجه شبهنا معه وهو لبنان حين ذرف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي دموع السياسيين بالقول “إن اللبنانيين باتوا عاجزين عن إيجاد حبة بانادول” لعلاج صداع الرأس بعد الأزمات المتلاحقة في بلادهم  ونجد رئيسة الحكومة أو أحد الوزراء يبكي لحال أم تونسية لم تعثر على قارورة حليب أو قطعة سكر ف”البانادول الكروي” كفيل بذلك لتسكين آلام البلاد العديدة.

سنكون واقعا أمام “هدنة كروية” نتناسى فيها المشغل اليومي والانتخابات والخصام السياسي والاستقطاب الثنائي والمعارضة والموالاة والأغلبية الصامتة والأقلية المتكلمة  والمعارك الشارعية والمعارك الشارعية المضادة  وكل “الأخطار الداهمة” والمؤامرات والدستور القديم والجديد وك “أهداف الثورة”  لصالح موجة الكرة المستديرة وأرجل اللاعبين وفكر المدربين وهالة المشجعين أمام الوليمة الجماهيرية التي ستترك الوليمة الحياتية في التسلل ولو إلى حين إشعار آخر… حقا إن وليمة كرة القدم وصفة قديمة لمطبخ النسيان.

Skip to content