مقالات

“بطانة الرئيس” و”الحريات” و”الدولة” الثالوث المحرم ووهم الديمقراطية !!

وجيه الوافي.
صحفي

“الايقافات الأخيرة تمت بأذون قضائية، بعد سلسلة من عمليات التنصت، كشفت وجود مخطط لإسقاط الرئيس قيس سعيد، والحراك يطالب بمحاكمات قضائية علنية تبث مباشرة على وسائل الاعلام الوطنية والأجنبية حتى لا يقع تأويل هذه الايقافات على انها ايقافات سياسية بغاية تصفية الخصوم السياسيين لرئيس الجمهورية، و الملفات تضمنت تهما خطيرة وجرائم في حق الشعب التونسي خاصة في ما يتعلق بملف ”الارهاب الغذائي”، هذا التصريح للمتحدث باسم حراك 25 جويلية محمود بن مبروك، تصريح يثير أكثر من نقطة استفهام حول دوائر الرئيس وبطانته وعلاقتهم بالقرارات وخاصة ملف الحريات، ويعيد إلى الواجهة مسألة تأثير هذه الدوائر المعلوم منها والمجهول وتحكمها في دواليب الدولة.

ما من شك أن هناك تواصل لانتهاك الحقوق والحريات بعد اجراءات 25 جويلية 2021 ، لكن الخطير اليوم هو تضييق الخناق على الفضاءات الخاصة المعارضة ومحاولة الزج بمنظمات المجتمع المدني في الزاوية وتخوينها، وكما نعلم أن حرية التعبير والتنقل والعمل السياسي، مكاسب انتزعها التونسيون منذ ثورة 2011 بعد عقود من القمع والاستبداد، إلا أنه في ظل الوضع الاستثنائي تصاعدت مؤشرات القلق، قلق يقابله حديث متكرر للرئيس قيس سعيد في مجمل خطاباته، بأنه لا خوف على الحريات، باعثا برسائل طمأنة حول ذلك، لكن حقيقة الأمر هناك حالة فزع تجاه ما يحدث في تونس من قرارات استثنائية تكاد تلغي كل الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور.

في المقابل لا نستطيع أن نجزم بأن ما يحصل هو أمر ممنهج من رئيس الجمهورية، لكن الأكيد أن الدولة العميقة وبعض الأجهزة النافذة التفت على رئيس الجمهورية في محاولة منها للحفاظ على مصالحها، وقد نبهت منظمات المجتمع المدني في أكثر من مناسبة من خطورة ما نعيشه اليوم وقدمت لرئيس الدولة جملة من المقترحات تضمنت وتوصيات تتعلق بإصلاح القضاء والأمن والحريات الفردية وجبر الضرر الجماعي والحوكمة الرشيدة للمؤسسات العمومية والحرب على الفساد، كما أن هناك العديد من الملفات القضائية الموجودة حاليا أمام الدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الانسان في أحداث الخبز وملف الرش بسليانة وشهداء الثورة وجرحاها، و هناك إشكال كبير بخصوص تنفيذ بطاقات جلب صادرة عن المحاكم في حق المتهمين للمثول أمام القضاء وذلك بسبب هوية مرتكبي هذه الانتهاكات المنتمين إلى وزارة الداخلية الموكول إليها عبر أعوان الضابطة العدلية تنفيذ بطاقات الجلب.

من المسؤول؟

هي تراكمات منذ الحكومات المتعاقبة و السياسيين تاجروا بـما يعرف بالمصالحة السياسية الشاملة ورؤساء الحكومات الذين لم ينشروا تقرير هيئة الحقيقة والكرامة بتعطيل مسار العدالة الانتقالية لأنه من شأنه أن يمس من مصالحهم الشخصية، في المقابل يواصل المجتمع المدني تحركاته للضغط على أصحاب السلطة للتوصل إلى حل فيما يتعلق بهذا الملف، وقد اقترح على رئيس الجمهورية بأن لا يربك الصلح الجزائي مبدأ استقلالية القضاء والمساءلة وذلك من خلال عدم إلغاء المسار القضائي بمجرد تقديم مطالب صلح وعدم إرباك القضاة المتعهدين بملفات جزائية منشورة، وضمان مبدأ المساءلة عبر مثول طالبي الصلح أمام القضاء أمام الدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية في الملفات التي سبق وأن قام المكلف العام لنزاعات الدولة بالحق الشخصي فيها، أو حتى أمام الدوائر الجنائية العادية والدوائر الجنائية المختصة في قضايا الفساد المالي، للكشف عن الانتهاكات في جلسة علنية أمام المحاكم، وترك القضاء المتعهد بملفات الاعتداء على المال العام يواصل أعماله ويصدر فيها أحكاما خاصة.

سبق أن اتخذت السلطات في تونس بعد 25 جويلية قرارات بوضع شخصيات سياسية ورؤساء هيئات دستورية قيد الإقامة الجبرية، لتفرج عنهم لاحقا، دون توضيح المبررات القانونية للإيقاف ولا للإفراج، واكتفت وزارة الداخلية في كل مرة بنشر بيانات باهتة طبقا لأحكام القانون رقم 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ، وأشارت إلى أن هذا القانون يخول وضع أي شخص تحت الإقامة الجبرية، وهو ما أدى إلى تعميق المخاوف الجدية بشأن تدهور حالة حقوق الإنسان في البلاد، وتكشف هذه الخطوات عن ممارسات لم يشهد لها مثيل منذ عهد ما قبل الثورة، خاصة وأن تونس أحرزت على مدى العقد الماضي، تقدما هائلا نحو تعزيز حقوق الإنسان.

الحنين إلى الديكتاتورية حالة وظاهرة سلوكية غير سوية، تنتشر في المجتمعات التي لم يترسخ فيها الوعي بقيمة الديمقراطية وأهميتها في إدارة دواليب الدولة، وتأمين الحريات العامة والخاصة، والتعددية، والتداول السلمي على السلطة، والديكتاتورية نظام حكم يستمد شرعيته الواقعية من معاناة المحكومين، ومن أزمات الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، و تونس اليوم تعيش حالة من تقويض الديمقراطية من الداخل، وتهميش الدستور، والهيئات الحقوقية والنقابية والمدنية، ومحاولة لتجميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد واحدة، ولكن الأخطر اليوم هو تهميش مؤسسات الدولة، وبقي الحنين إلى الديكتاتورية شعورا يخالج طيفا من التونسيين منذ السنوات الأولى التي تلت الثورة، فقد رأى كثيرون من أتباع النظام القديم في الديمقراطية خطرا يتهدد مصالحهم، وخشوا من أن تكون مرحلة الانتقال الديمقراطي مرحلة محاسبة شاملة، جادة وفترة كشف شفاف لانتهاكات الدولة القامعة، وفي النهاية الشعوب هي من تصنع الديكتاورية وليس الحاكم من صنع ديكتاتوريته، في المقابل يبقى المجتمع المدني صمام الأمان أمام أي محاولة لبسط الحكم الشامل من أي طرف كان ولو كان قيس سعيد.

Skip to content