مقالات

حتى لا تسير بنا الارقام الى نفس المقاربات

طارق السعيدي
صحفي

بلغت نسبة البطالة 18.4 بالمائة خلال الثلاثي الثالث من سنة 2021 مسجلة بذلك ارتفاعا بحوالي 0.5 بالمائة. وبلغت نسبة المديونية 110 بالمائة كما بلغت نسبة عجز الميزانية لسنة 2021 نحو 7.3 بالمائة وفق أرقام وزارة المالية. إن كل هذه الأرقام مهمة غير أنها سطرت بشكل كبير حدود التفكير في الحلول وارتهنتنا في منطقها. 

فالأرقام أولا وأخيرا مجرد إشارات نحاول من خلالها اختزال الواقع لفهمه لنكتشف بعد التدقيق انها لم تكن بتلك الدلالة القوية التي كنا نتوقعها. ولما كان الرقم دالا ولكن بما لا يكفي فإنه أصبح من الضروري التفكير اقتصاديا بشكل أعمق من مجرد الجري وراء الأرقام ومحاولات تعديلها.

زيف الارقام

الحقيقة أن كل الأرقام المقدمة مهمة ودالة من ورغم اهمية هذه الارقام في فهم الواقع الاقتصادي فإنه من المهم جدا أن نبتعد أكثر قدر ممكن عن سطوتها وعن سلطة مضمونها لنفكر بشكل أعمق. تحتاج الارقام لتكتمل في معناها ودلالاتها الى تحليل يستند الى تصور ورؤية وهو ما سيحدد طبيعة دلالاتها. خذ قراءة أي ليبرالي لنسبة النمو ستجد أن اهتمامهم ينصب على تحقيقها دون الحديث عن كلفتها البيئة والاجتماعية ودون ان يلتفت الى مضمونها التنموي والى مدى ما تحقق من رخاء مشترك ومن أسباب التطور. على الجهة الأخرى سينصب اهتمام المدافعين عن تصور اجتماعي على ما تحقق نسبة النمو من تنمية ومن ارتقاء بمستوى العيش فإن لم تفعل وإن لم تساهم في ذلك فاكأها لم تكن. لقد جربنا خلال السنوات العشر الاخيرة وربما قبل ذلك بسنوات ان نخضع للارقام وان نسعى لتطويرها وترقيعا فقط لانها ارقام، كما خضعنا للأرقام أيضا باعتبارها دلائل “نجاح” النظام الحاكم حتى وان لم يتجاوز ذلك النجاح مربع اعداد الرقم واعلانه إعلاميا دون التفطن والانتباه إلى أن انعكاساته في الواقع ضعيفة جدا. ومن مظاهر سطوة الرقم انه وبقدر ما كنا نتحدث في أواخر التسعينات عن نمو مستقر ونسبة 05 بالمائة سنوية، بقدر ما كانت قدرتنا الانتاجية تضعف. لقد تم توظيف الارقام سياسيا حتى اننا نفزغ أيما فزع عند ارتفاع نسبة عجز الميزانية 03 بالمائة ونرتعد حينما تتجاوز نسبة المديونية 30 بالمائة وننشغل عندما هذا الانشغال والانصياع لمنطق الأرقام والمؤشرات الهانا عن علاج الجوهر والمشكل الأساسي.

القيود

خلال السنوات العشر المنقضية وما سبقها من كانت بلادنا نعالج الإشكاليات الاقتصادية وفق مقاربات مريحة جدا. فالمقاربة المرحلية التي نتحدث عنها هي مقاربة صندوق النقد الدولي باعتبارها جزء من تصور اقتصادي معولم يجعل السوق منطقا واليات فوق كل الاعتبارات. وهي مقاربة مريحة لانها تنسجم مع متطلبات المقرضين وتسهل بالتالي التخاطب معهم لتكون بالتالي مفتاح مزيد من الاقراض وهي سهلة ايضا من حيث إنها معدة مسبقا ولن تحتاج الدولة ونقصد كبار الموظفين الى بذل الجهد لإعداد البرامج والمقاربات بل ستكون أمام برامج جاهزة وسيتقتصر الجهد على الترجمة.

يمكن الاشارة هنا الى ان نظام امد هو نسخة من برنامج كندي وان جل السياسات التشغيلية هي برامج وجدت في برامج اوروبية منبعا لها. قلنا انها مقاربات مريحة ولكنها أيضا مقاربات مغرية لارتكازها على الارقام مثل ذلك الرقم السحري الذي يقول انه لا يجب ان تتجاوز نسبة التضخم 02 بالمائة وأن لا يتجاوز عجز الميزانية نسبة 03 بالمائة. ومن خلال الرقمين المقدمين تبدو المقاربة المقدمة من صندوق لنقد الدولي كواجهة مؤسساتية للقوى الرأسمالية الكبرى في منتهى الابهة العلمية ولوجاهة المنطقية والحقيقة ان ذلك غير صحيح حيث لم يحدثنا احدهم يوما عن الانعكاسات الكبرى لنسبة تضخم تعادل 2.5 بالمائة وعجز ب3.4 بالمائة مثلا

الرقم ليس محايدا

ان الغاية من كل ما تقدم ليست التشكيك في الارقام باعتبارها إشارات ومؤشرات بل في منطق الاعتماد عليها كليا في التحليل وكانها مفعمة بالمعنى في ذاتها وإلغاء مضمونها السياسي و الايديولوجي والفكري. فهدفنا هول القول بأن القراءة الفكرية للرقم أهم من الرقم لأن المقاربة السياسية أعمق دلالة منه. ويقول الدكتور منجي المقدم في مقال حول السياسات النقدية في تونس بين الضغوطات الخارجية والانتظارات الداخلية، “وبما أن مواجهة التضخم هو الهدف الوحيد الموكول للبنك المركزي، فان هذا الأخير ينطلق من مقاربة ليبرالية تعتبر ان التضخم هو أساسا ظاهرة نقدية وبالتالي فإن معالجته يجب أن تتم بواسطة وسائل نقدية على غرار الرفع من نسبة الفائدة المديرية والحد من القروض البنكية والتخفيض من إعادة تمويل البنوك وإرساء آلية جديدة تجعل منح القروض البنكية مرتبطا بقدرة البنوك على تعبئة الموارد المالية لكن النتائج المسجلة تعتبر محتشمة ونسبة التضخم لا تزال مرتفعة. فالتضخم ليس مسألة نقدية بحتة، كما يعتبره البنك المركزي، وبالتالي لا يجب الاقتصار على الوسائل النقدية” يعتبر الدكتور منجي المقدم ان التضخم هدف استراتيجي للبنك المركزي لأنه يتبنى سياسة ليبرالية. وهو ما يدعم فكرة أن الرقم يظل محايدا إلى أن تتم قراءته فيكتسي مضمونا ايديولوجيا وسياسيا. ففي إطار الفكر الكاينزي على سبيل المثال لا يهم حجم التضخم بقدر ما يهم خلق ديناميكية اقتصادية ولذلك فان من يتبنون فكر كاينز لا يعتبرون أن تجاوز نسبة التضخم 03 او 05 بالمائة مسألة مقلقة. بالارقام اذا بلا معنى الا متى وضعت في السياق الفكري

تغيير زاوية النظر

إن هذا الاستنتاج الأخير هو الممهد المناسب للقول بأن عمل الحكومة والفاعلين الاقتصاديين لا يجب ان يقاد بسطوة الارقام بل يجب أن يدار بمنطق جديد للتفكير. ولعله من المهم التوقف أما فكرة مهمة برزت في كتابات العالم الهندي أمارتيا صن عندما دعا الى ضرورة التفكير بشكل مغاير عبر تغيير زاوية النظر و قلب محور الاهتمامات. خلال بحثه في مجال التنمية اكتشف مارتيا صان ان مشكل انعدام التنمية في الهند قد لا ينبع من ضعف الموارد الطبيعية ولا من نقص في الرصيد البشري ولا من حجم السوق بل من عدم وضع الانسان في صدارة الاهتمامات. ما ذكره امارتيا صان الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد قد يكون مدخلا مهما للفاعلين السياسيين لاعادة التفكير في ترتيب الوضع الاقتصادي بعيدا عن سطوة الارقام. ان الوضع الاقتصادي الحالي يستوجب فعلا معالجة عاجلة وأن الحقيقة قد لا تعطي للفاعلين السياسيين والاقتصاديين ذلك الهامش المطلوب للتفكير بروية ولكن ذلك لا يحجب ضرورة خلق الوقت والمساحة الضرورة للتفكير بهدوء وعمق. خلال السنوات العشر الاخيرة قادنا المنطق الان وتم التأسيس منطق مجاراة الواقع وهو ما أدى اخيرا الى ازمة اقتصادية عميقة ومتشعبة لن تكفي الحلول الترقيعية لتجاوزها فما نعيشه اليوم من ازمة معقدة مركبة تستدعي أكثر من بعد خلال التحليل بل لعلها تستعيد ما هو أعمق من ذلك وأعني كسر الحواجز التي رسمتها البنى القديمة من مؤسسات ثابتة جامدة وما نتج عنه من ارتباطات ثابتة للفاعلين السياسيين والاجتماعيين. ما هو أعمق يستدعي الانتباه إلى أن الدولة في القرن الواحد والعشرين بما تتسم به من رخاوة وسيولة قد لا تكون قادرة على قيادة المجتمع في ظل تداخل الفاعلين الدوليين والمحليين بعد عصف تكنولوجيات الاتصال الحديثة بما بقي من . والانتباه الى ان وان المؤسسة الاقتصادية لم تعد تحتكر خلق مواطن الشغل وان شابا قادرا على الكلام الجاد او المسلي او حتى التافه المقرف لديه القدرة على إيجاد موقع منتج لنفسه يفوق دخله ما تضمنه ارقى الوظائف. والانتباه الى الفاعل المحلي لم يعد ملتزما بالسياسات الوطنية المركزية. ان هذا التفكير العميق والمغاير لا يمكن ان يجد أسسه الا في اطار حوار وطني هادئ يتم خلاله حسن التشخيص من أجل المعالجة وفق ما ذهب إليه أمارتيا صن وهو يقول “إساءة الوصف، وخطأ التصور والإدراك يمكن أن يجعلا العالم أكثر هشاشة مما هو بالفعل”.

Skip to content