مقالات

سلطة التاريخ والحفاظ عن المساحة المشتركة

فطين حفصية
صحفي

يقول الفيلسوف والمؤرخ البريطاني روبن جرورج كولينجوود “لو أننا نظرنا إلى البحر ورأينا مركبا ثم عدنا بعد خمس دقائق فنظرنا مرة ثانية ووجدنا المركب في مكان آخر غير الأول لكان علينا أن نتبين حينئذ أن المركب مر عبر المساحات المائية أثناء سيره بين النقطتين في الوقت الذي لم نكن نتبع سيره”

مقولة تختصر أن التاريخ علم “استثنائي” ليس في الزمن بل في الدراسة فلا تقف المادة التاريخية عند “ويل للمصلين” وإنما تمتد إلى دراسة الأحداث في المجمل وليس التفاصيل وعلى مدى التحولات لا جزئياتها ومن نقطة زمنية إلى أخرى دون فسحة زمنية نود سماعها.

إن فلسفة التاريخ بسيطة لكن الحفر فيها معقدة جدا بتراكم المعرفة التاريخية والحقائق وإلى الآن يقول عدد من المختصين التونسيين وإن باختلاف بينهم في الطرح في عدد من اللقاءات الأكاديمية أو المنابر الإعلامية أن “التاريخ من أسفل” ضرورة مهمة للوصول إلى “التاريخ من أعلى” ومن ثمة بلوغ الهدف الأسمى وهو جعل الناس على اختلاف توجهاتهم وجهاتهم ومسؤولياتهم يعرفون تاريخهم أو ما يعرف مثاليا بـ”دمقرطة التاريخ”.

ما يجر الحديث عن ذلك هو عيش تونس للذكرى 13  للثورة 14 جانفي 2011 المترابطة زمنيا مع 17 ديسمبر 2010 الذي يكاد يتفق كل التونسيين أنهما زمنان في زمن واحد ونتيجتهما واحدة  بعيدا عن “غبار” التنازعات التاريخية للسياسيين التي تريد وضع كل التواريخ في سباقات التدافع منذ الذكرى الأولى لهذه الثورة وإن تم تحريك الاحتفاء الرسمي بما عرفته البلاد في تاريخها السياسي الحديث من يوم 14 جانفي إلى يوم 17 ديسمير لكن الأسئلة المتبصرة الآن بعد كل هذه المدة وهي من صميم الفعل التاريخي الذي تم خلال هاتين المرحلتين ( 17 و14) هي الآتية :

هل مازالت الشعارات المركزية التي رفعت في تلك الحقبة “ابنة يومها” أم هي صرخة تلاحق كل من حكم وعارض إلى اليوم ؟

هل أن الزمن التاريخي في تونس كسائر التجارب الانتقالية انتهى لأجل مرحلة التقييم أم أنه لم يكتمل بعد وتنضج فكرة “محاسبته” ؟

 ألا يصح القول أن تونس ومع جريان الأحداث مازالت تحافظ على مساحة مشتركة من الثوابت وإن بات مشهد الاستقطاب الثنائي الحاد واضحا وصريحا ؟      

لا جديد تحت الشمس

في الإجابة عن ذلك يبدو السؤال الأول إنكاريا  فالشعار الجوهري الذي ارتفع من أقصى البلاد إلى أدناها ” شغل حرية كرامة وطنية ” ظل مؤجلا إلى إشعار آخر إذ أن البلاد منذ سقوط رأس النظام بقيت تنتقل من أزمة إلى أخرى من السياسة إلى الاقتصاد وتجابه تحديات اجتماعية فحين غاب المشروع تاه التنفيذ و بقي المواطن التونسي  ينظر بقلق إلى حصاد العشرية الثانية التي دخلناها بعد 2011  ويستنتج أن الشعارات التي رفعت ضاعت وسط “تصيد السلطة” و ترحيل التحديات الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية لصالح معارك دستورية وقانونية ومفهومية “شبع” منها.                        

وباعتبار أن الأرقام دكتاتورية فإن نسبة البطالة ارتفعت إلى  حدود 15 فاصل 8 بالمائة خلال الثلاثي الثالث من سنة 2023 ليستقر عدد العاطلين عن العمل في الثلاثي الثالث من السنة نفسها في رقم يقترب من 640000 شخص استنادا إلى إحصائيات رسمية منشورة بموقع المعهد الوطني للإحصاء.

ولا تستدعي هذه الأرقام ذكاء كبيرا لربطها بـ”موجة الهجرة” القياسية عبر كل الطرق التي يقوم بها العاطلون وأصحاب الشهائد للبحث عن آفاق أخرى سواء عبر البحر أو البر أو التناظر وفي الجهة المقابلة توسعت “المقاطعة” للشأن العام والنقاشات المفتوحة وللطبقة السياسية حاكمة كانت أم محكومة وإن مازال الشارع الاحتجاجي يتنفس ويعبر متى استدعت الضرورة ذلك ليبقى قوة ضغط  فاعلة.

التقييم المعلق للانتقال منذ 2011

 إذا رسمنا إطار التقييم  بعد 13 عاما والزمن التاريخي للمشهد الانتقالي فإن الأحداث تقول وللمفارقة أن البلاد عاشت انتقالين في انتقال واحد وبنائين مختلفين بهندسة انتخابية واحدة هي القانون الانتخابي  للعام 2014 إلى حين تغييره بشكل واسع في سبتمبر من العام 2022 فبعد عشرية النظام شبه برلماني دخلت عشرية جديدة بنظام رئاسي بعد الاستفتاء على الدستور الجديد بمن “حضر” لكنها في الحالتين ظلت تخضع لتقييمات من أعلى إلى أسفل والحال أن المهم النظر إليها من أسفل إلى أعلى لنغادر بذلك مربعات التقييم الفوقي الانتقائي البعيد عن شرائح مهمة من المجتمع التونسي ومنها ما تعرف تمايزا عن غيرها من الطبقات السياسية أو الاقتصادية أو الحقوقية أو القانونية  بالأغلبية الصامتة.

فالفاعلون الرئيسيون في كل المراحل التي عرفتها البلاد منذ 2011 إلى اليوم  ولا نعني السياسيين فقط يتقاذفون “كرة المسؤولية” ولم  نعرف بشكل علمي صريح حدود مسؤولية كل طرف في النجاح والفشل أو التردد والاضطراب باعتبار عدم وضوح الجانب المخاطب في كل فترة وإن جمعهم كلهم الحديث عن “الجنة الديمقراطية الموعودة” و”الصعود الاقتصادي الشاهق”.

ويبدو من كل ذلك أن عملية التقييم يجب أن تتوجه بوضوح إلى الجهة المعنية والمخاطبة حتى لا يكون التقييم انتقائيا وغير منهجي لمرحلة تعقيداتها كبيرة وأن لا تنسى محيطها البنيوي الداخلي والإقليمي والدولي المؤثر سلبا أو إيجابا في ما عرف بـ”الموجة الثالثة” في الأدبيات التي تعالج المراحل الانتقالية الديمقراطية لتصح كل رؤية نقدية.

في كل ذلك لازال يوم 14 جانفي يؤسس لقواسم مشتركة أمام التونسيين أهمها “اليقظة الديمقراطية” والوقوف أمام أي انتكاسة  محتملة وإن سادت حالة من البهتة أو الارتخاء  أو التراجع عن المكتسبات حيث تقف منظمات وطنية وتشكيلات من المجتمع المدني في موقع الإسناد والاقتراح والرقابة أيضا. 

 وإن كان شارع الحبيب بورقيبة الشارع الرمز للثورة وأطرافه ينقسم كل سنة منذ 2012 إلى “مربعات” سياسية وإيديولوجية وحقوقية فإن هذه المساحة المشتركة التي تتصل بالتشغيل والحرية والكرامة الوطنية لن تغرب ولو في ظل وجود هذه الأرخبيلات المتضادة.

Skip to content