مقالات

عن امكانيات المقاومة والتغيير ضمن منظومة نيوليبرالية

عبد الكريم الشابي

شهدت تونس منذ أحداث جانفي 2011 ما يشبه الانفجار في عدد مؤسسات المجتمع المدني المسجلة (2000 جمعية جديدة فقط في 2011 أي بزيادة قدرها 10 بالمائة عن العدد الجملي المسجل الى ذلك التاريخ) وان كان هذا الانفجار ناتجا عن الانـفـــراج المصاحب للتغيــرات الكبرى التي شهدتها البلاد في الساحة السياسية حينها والتي ضمنت بموجب المنشور88 الذي اتاح المرور من  وجوبية الترخيص المسبق لبعث الجمعيات، الى مجرد الاعلام بتأسيسها، ضمنت هذه الاجراءات المبسطة أن ينخرط أكبر عدد ممكن من المواطنين في النشاط المدني والاجتماعي دون الخوف من  التبعات السياسية لأنشطتهم تلك وتمكن النشطاء بذلك من لعب أدوار متقدمة سواء كان ذلك عبر مراقبة السلطة السياسية أو المطالبة بالمزيد من الشفافية أو ادراج ضمانات خاصة للفئات الهشة ضمن القوانين والاجراءات كما تم التفطن مبكرا الى أهمية التحديات البيئية على مسائل مثل التنمية المستدامة أو دور الاقتصاد التضامني في التخفيف من حدة التفاوتات الاجتماعية كل ذلك رغم أن المنظومة الحاكمة كانت ولا تزال (و نحن نخط هذه السطور وقع الاختيار الرئاسي على أحد رموز المنظومة اللبرالية لتشكيل الحكومة الجديدة) تدافع عن التمشي النيوليبرالي المتفق عليه ضمن ما يسمى بالحزم الاصلاحية المقترحة من طرف الدائنين والمانحين والمادحين.

بالرغم من تمكن نسيج المجتمع المدني من المحافظة على عديد المكاسب ومن تدعيمها بقوانين واجراءات هامة الا اننا نعيش تقهقرا في قدرة منظمات وجمعيات المجتمع المدني على مقاومة الطروحات اليمينية والمتشددة أحيانا يظهر لنا هذا جليا من خلال تمرير قانون المصالحة، بتلك الصيغة  وفي غياب تام للحوار المجتمعي كما هو الحال من خلال رفض أطراف في السلطة النقاش في مواضيع مثل المساواة (أو حتى حق المرأة في الميراث في بعض الحالات).

يجدر بنا اذا أن نطرح السؤال : ما الذي حل بكل تلك الجموع المنخرطة في الجمعيات والمنظمات منذ جانفي 2011؟ لماذا لا نكاد نلاحظ نوعا من التنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني بخصوص القضايا الوطنية الهامة؟ والاخطر على الاطلاق لماذا نشعر برغبة بعض هذه المؤسسات في اخضاع ارادة الشعب التونسي الى أجندات المانحين والمقتدرين، حتى أن احدى المؤسسات المرموقة تدافع عن علاقتها بالناتو؟؟ نعم حلف الناتو الذراع المسلح لليمين اللبرالي العالمي يجد مؤيدين وأصدقاء له ضمن النسيج الجمعياتي التونسي الجديد

للإجابة على هذه الأسئلة وجب قبلا الاجابة عن سؤال جوهري ومهم ماذا نحن مقاومون؟ ومن هم المعنيون بالمقاومة والتغيير؟

بالعودة الى الماضي القريب سنكتشف سريعا أن جمعيات ومنظمات المجتمع المدني الوطنية طالما كانت رأس حربة المقاومة والتغيير في تونس ونحن لا نفشي سرا ولا نبالغ في القول بأن هذا النسيج من مؤسسات المجتمع المدني هو من أطاح بالنظام السابق من خلال نضالات مستمرة دفاعا عن الحرية وقيم العدالة للجميع وكونية منظومة حقوق الانسان والزام الدولة بالإيفاء بالتزاماتها الاجتماعية تجاه الفئات الأكثر هشاشة وفتح المجال للمبدعين والمنتجين للابتكار والتجديد. وجب اذا أن نذكر كل أولئك الشباب الطلابي والتلمذي والنقابيين، أولئك النسويات الفذات، أولئك الفنانون والموسيقيون ومغنوا « الموسيقات السرية» الذين انخرطوا طواعية في النضال من أجل غد أفضل لكل التونسيين وليس لجزء على حساب الكل.

ان ما يجمع هذه الفئات فهو جوهري في عملية المقاومة والتغيير أي الهدف المرسوم من وراء النضال فنحن لا نعتقد أنه كان موجها ضد شخص أو ضد مجموعة انسانية بل ان المقاومة المدنية لا تستقيم ولا تؤتي نتاجا ان لم تكن أهدافها انسانية وجامعة تدفع في اتجاه مزيد من العدالة والتعاون لأجل المنفعة المشتركة.  يتبين لنا سبب اذا، التراخي امام المخاطر المحدقة بنا اليوم مثل التفويت في القطاع العام، والمضي في الاتفاقات الدولية الغير مجزية، وعدم الاهتمام بالمسألة البيئية ووضعها في أولويات  السياسية التنموية، ودفع الشباب نحو الهجرة وعدم مجابهة التهرم المجتمعي يبدوا لنا مرد ذلك لثلاثة أسباب رئيسية أولها ان جزء هاما من المؤسسات الجمعياتية «الجديدة» مرتبطة بمصالح الممولين وهي بذلك لا تستطيع التعبير الفعلي عن تطلعات وطنية صرفة بل أغلبها منخرط في عملية هندسة اجتماعية عن طريق المناولة. أما السبب الثاني فهو يعود الى القبول بتغيير شكلي لجزء من النظام  واستبداله بلاعبين جدد دونما تغيير في توجهات النظام وعقيدته ومن ثمة اعتبار أن المهمة قد انجزت  من طرف جزء من المجتمع المدني. أما السبب الثالث فيعود الى تغليب الاستقطاب السياسي والحزبي على الحوار بين مكونات المجتمع المدني في شتى المواضيع مما ادى الى احتكار المجال العام من طرف أحزاب بعينها في تناغم تام بين المنظومتين السياسية والاعلامية

         في الأخير وكي لا نقع ضحية اوهامنا مرة اخرى علينا تعديل البوصلة وأن نتذكر أن مهمة التغيير المدني هي مصاحبة لمقاومة الهيمنة والاستبداد، وبأن النهج اللبرالي ليس أبدا بضامن لعدم الانحراف بالديمقراطية وليس ادل على ذلك ما تعانيه اليوم شعوب عريقة في التجربة الديمقراطية  اللبرالية من بطش أنظمتها، مثلما هو الحال في القمع الدموي الذي يتعرض له الشعب الفرنسي الصديق  لاحتجاجاته على مشروع قانون التقاعد الجديد، من طرف الآلة البوليسية للنظام اللبرالي هناك.

Skip to content